تناولنا في مقالتنا السابقة مجموعة من أخلاق المسلم، التي تدلل على كمال إيمانه، واستقامة دينه، منها القوة المتمثلة في قوة الإيمان التي ينشأ عنها قوة الروح، وقوة الفكر والعلم والبينان، ثم العفو والصفح والجود والكرم والقصد والعفاف، وكلها تزيد بزيادة الإيمان بقلب المسلم، ثم الثمرة الأعظم للإيمان، وهي الصبر التي تبلغ بالمرء الوصول إلى الله سالما من أذى الدنيا وفتنها.
النظافة والتجمل والصحة
إن الإنسان الحريص على نقاوة بدنه ووضاءة وجهه، ونظافة أعضائه يبعث يوم القيامة على حاله تلك، وضيء الوجه، أغر الجبين، نقي البدن والأعضاء، وإن صحة الأبدان وجمالها ونضرتها من الأمور التي وجه إليها الإسلام عناية فائقة واعتبرها من صميم رسالته، لما لذلك من أثر عميق في نهوض الإنسان بأعباء الحياة.
وقد كرم الإسلام البدن كما كرم الروح، وجعل طهارته أساسا قبل كل صلاة، وكلف المرء بالاغتسال في أحيان كثيرة، أقلها مرة كل أسبوع يوم الجمعة، وأمر بغسل ما يتعرض للغبار وآثار الأشغال من أعضاء الجسم، واهتم بتطهير الفم، ونظافة الأسنان، وغسل الأيدي، فشرع السواك وحث عليه حتى حببه إلى النفوس، ولربما أدرك الناس الآن سر مبالغة النبي في استعمال السواك، بعد ما نسمعه ويعانيه الناس من آلام الأسنان وأمراض اللثة.
وكره الدين التفاعل الكبير مع المجتمع لمن أكل ثوما أو بصلا، وأسقط عنه سنة الجماعة، ليجنب الناس الإيذاء من رائحة الفم، وكذا اهتم بتصفيف الشعر وتنظيفه، وأوجب على من كان له شعره أن يكرمه، وكره للرجل أن يمشي ثائر الرأس كأنه شيطان.
إن من الجهل بحقيقة الإسلام، أن يكون الإنسان فوضوي الملبس متسخا، يلبس المرقع والمهلهل من الثياب، مدعيا الزهد في الدنيا، بيته غير نظيف، وغير عابئ بما في طرقات الناس، من أذى كشوك أو حجر أو نجس لا يزيله.
إن اهتمام الإسلام بجانب النظافة، اهتمام بصحة المسلم وعافيته، والمرء النظيف الجميل، يفوت على نفسه وعكات المرض المتتالية التي يجبلها وسخ الجسد، وبغض الناس لمجلسه ورؤيته، ويقع هذا موقع الأخذ بأسباب العافية، التي شرعها الإسلام ونوه عليها.
الحــياء
الحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، يكشف إيمانه، ويبين أصالته، فالذي يتحرج من فعل ما لا ينبغي، هو إنسان يقظ الضمير، نقي المعدن، زكي النفس، والمرء بليد المشاعر الذي لا يبالي بما يفعل، ولا ما يأخذ أو يترك، لا خير فيه، ولا مروءة له.
لقد أمر الإسلام أبناءه بالحياء، وجعله من أبرز معالم هذا الدين، فقد تميزت اليهودية على عهد موسى بالصرامة، وتميزت المسيحية على عهد عيسى بالسماحة، وتميز الإسلام الذي جاء به محمد بالحياء "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء"، ولقد كان رسول الله أشد الناس حياء، لأنه كان أعظم الناس إيمانا، فكلما زد إيمان المرء ازداد من الله حياؤه، فلا يفعل إلا ما يرضي الله، ولا يقترب مما يغضبه.
إن فقدان الحياء، بداية السقوط ما لم يدرك الإنسان نفسه، فإن الله سبحانه إذا أراد هلكة إنسان نزع من نفسه الحياء، فيتدرج في سلم السقوط حتى يهوى في قاع جهنم، فمن نُزع منه الحياء تجرأ على الله، ومن تجرأ على الله هلك.
وقد عُرف للحياء مواضع كثيرة أهمها، الحياء في الكلام فلا ينطق الإنسان بالفحش، ولا يغتاب، ولا يذكر عورة إنسان، ولا يثرثر في حديث المجالس، ولا يؤثر عنه السوء من القول والإشاعات.
ومن مواضعه الحياء مع الناس، فيعرف لأهل الفضل حقهم، وينزل كل امرء منزلته، ولا يتقدم على الكبير، ولا يقسو على الصغير، يتواضع في كل أحواله، ويترفق مع كل أهله وخلانه، ويفضل أن يراق دمه، ولا يريق ماء وجهه بخلق سيئ.
إن الخجل من علامات الحياء، وليس هو الحياء، فالحياء لا يأتي إلا بخير، والخجل قد يقع في الخير والشر، فقد يخجل الإنسان أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، أو يخجل من قولة حق تنصف مظلوما وتردع ظالما، أما الحياء فهو الحكمة في كل أمر، وعمل ما يليق في كل موضع.
ومن مواضع الحياء وأجلها وأسماها، الحياء من الله، وذلك يكون بالمسارعة إلى الخيرات، والهروب من السيئات، ومقابلة النعم بالشكر، والبلاء بالصبر، وأن يحفظ المرء قلبه وعقله وبطنه وكل جوارحه التي وهبه الله إياها، فلا يستعملها في معصيته حياء منه جل وعلا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
الإخــاء
التعارف لا التنافر أساس العلاقة بين البشر، ولا ينبغي للأحداث السيئة أن تنسينا الحكمة من كوننا شعوبا وقبائل مختلفة بتنوع وتكامل، لتعمير الأرض بجهود متناسقة.
إن الأخوة بين المسلمين هي روح الإيمان، وحقيقة الإسلام، فهو يجمع بين القلوب، ويؤلف الأرواح، فيجعل المسلم يفرح لأخيه ويحزن بحزنه، ييسر منفعته ويكره مضرته، يفرح بالخير يصيبه كأنما أصابه هو، يمشي في حاجته بهمة سعيه في حاجة نفسه أو أشد، يناصره لإحقاق الحق وإبطال الباطل، لا يناصر عصبية عمياء، لا يخذله وقت الشدائد والمحن، ولا يتهكم عليه أو يزدريه ويسخر منه، يرشده إذا ضلت خطاه وتاهت عن الرشد نظراته، ويميت العصبية القبلية والعائلية، فيعطه حقوقه كاملة من غير محاباة ولا مجاملة لقرابة نسب أو صلة رحم، وإنما لله وحق أخوة الإسلام.
إن الأمة قامت على مبدأ الأخوة فقويت شوكتها، واندحر أعداؤها، وما تخالفت قلوب المسلمين يوما إلا انقض عليهم عدوهم انقضاض الأسد الجائع على الفريسة الضعيفة فالتهمهم.
الاتـــحاد
إن الفرد جزء من كيان الأمة، وعضو موصول بجسمها، وقد تكرر خطاب القرآن للجماعة كثيرا، وما للجماعة في القرآن يخص الفرد، وإن اختلاف الأفهام والآراء ليس غريبا في الدنيا، فلا يجوز أن يكون سببا للتقاطع والشقاق، ولو تجردت النوايا للبحث عن الحقيقة، لصُفّيت المنازعات التي ملأت الدنيا أكدارا ومأسي.
إن ائتلاف القلوب، واتحاد الغايات، وتوحيد الصفوف، واجتماع الكلمة، أعظم عوامل بقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها، وإن أجر العمل يختلف كثيرا حين يؤديه الإنسان وحيدا، وحين يؤديه مع آخرين، فالصلاة هي هي إذا أداها الفرد بمفرده، لا تختلف هيئتها ولا أعداد ركعاتها، ولكن أجرها يتضاعف إذ كانت بين صفوف المسلمين في جماعة، وفي هذ إغواء للانضمام للجماعة، ونبذ العزلة، والانحصار في نطاق النفس، والنأي بالمصلحة الفردية عن العامة، ولذا كان من هدي الإسلام الشعائر الجماعية، مثل الجمع والأعياد، والحج وصلاة الجماعة، واعتبر الجماعة والاتحاد من أعظم العبادات، لتبقى الأمة قوية الأواصر ملتحمة في وجه الدنيا، والفرقة والانعزال من الشيطان.
لقد لان الإسلام لاختلاف العقول والأفهام، ومنح المخطئ أجرا والمصيب أجرين، حتى وسع الجميع في كنفه، ما داموا مخلصين في طلب الحق، بل لقد أفتى العلماء بأن تغيير المنكر المترتب عليه مفسدة أعظم لا يلزم، فبقاء المنكر الصغير أخف من الضرر العظيم.
إن الاتحاد قانون من قوانين الكون، وما الكون إلا جملة ذرات متحدة، والخيط الضعيف إذا انضم إليه غيره صار حبلا متينا، والشقاق يضعف الممالك القوية، ويميت الممالك الضعيفة، لذا أوصى الإسلام بتوحيد الصفوف، وإصلاح ذات البين، وحذر من الفرقة والتنازع والشقاق، وأمر بإطفاء نار بوادر الخلاف بين القلوب من شرارتها الأولى.
"فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" – "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" – "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله" – "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر"...
إن الهجوم الصليبي المعاصر، والهجوم الصهيوني الذي جاء به في أذياله، لم ينجحا في ضعضعة الدولة الإسلامية وانتهاب خيرها، إلا عقب ما مهدا لذلك، بتقسيم المسلمين شيعا منحلة واهنة، ودويلات متدابرة.
إن الاتحاد يفيد الأمة بكل قدرات أبنائها، ما يمكنها من تشييد صرح عظيم، ويُميت فيهم الطبائع السيئة، ما يكنها من بناء مجتمع فاضل.