عانت الأمة الإسلامية، ومازالت، من حالة الجمود الفكري والفقهي حيث توقف الاجتهاد عند القرن الخامس الهجري، وباتت أي محاولات للتجديد توصف بأنها تستهدف المنهج الإسلامي، لذا عانت الحركة الإسلامية الحديثة عنتا كبيرا سواء داخل صفوفها أو عند معارضيها من طرح فكرة التجديد أو محاربة الجمود الفكري الذي تعاني منه الأمة، ولا شك أن أحد ملامح موت الأفراد والأمم هو الجمود والركود الذي يسيطر على الفكر والعقل، وبالتالي على مختلف الفعاليات العقلية.

الجمود آفة خطرة

يقول الشيخ القرضاوي:- إن الجمود آفة من آفات الفكر الحركي "المؤطر" وهو عائق من العوائق الداخلية في الحركة الإسلامية، حيث الجمود على شكل معين في التنظيم وعلى وسائل معينة في التربية وعلى صور معينة في الدعوة, وعلى مراحل معينة في الوصول إلى الهدف وعلى أفكار معينة في السياسة، ومن حاول أن يغير من هذا الشكل أو تلك الوسيلة أو هذه الصورة أو تلك المراحل, أو تلك الأفكار أو يعدل فيها بالزيادة والنقص قوبل بالرفض الشديد, أو الاتهام والتنديد.. والتجديد الذي نريده لا يعني إلغاء القديم، بل تطويره وتحسينه وتحديثه والإضافة إليه، وبخاصة: ما يتعلق بالوسائل والأدوات والكيفيات، فهى أمور مرنة قابلة للتطوير والتحول والاستفادة من إمكانات العصر ومما عند الآخرين، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها(1)

ويرى أن التجديد في الدين أمر مشروع بل مطلوب، موضحا أن التجديد لا يعني الهدم بقدر ما يعني إعادة البناء والإصلاح لما فسد والعودة به إلى أصله ناصعا، وأن التجديد في الفقه السياسي مطلب ملح، خاصة أن النصوص الدينية التي وردت في شأن الفقه السياسي على وجه التحديد قليلة، لكنها موجهة ومحكمة تستدعي الاهتداء بها وفق ما يقتضيه العصر والتطورات التي عرفها العالم الإسلامي، كما تستدعي تجاهل الاجتهادات التي خالفت الأصول والنصوص القرآنية الواضحة كتلك الفتوى التي اعتبرت الشورى معلمة غير ملزمة، مشددا على أن الشورى ملزمة بنص القرآن(2) 

أسباب الجمود ومظاهره

يقول الدكتور حسن الترابى: ومن جمود الفكر جمدت الحياة في كل مناحيها، فإذا كانت الأوضاع السياسية المثلى في الإسلام تقتضي الحركة الدائبة تآمراً بالمعروف وتناهياً عن المنكر وتناصحاً وشورى وتعرضاً للمشكلات الداعية للاختلاف والمغرية بالتفرق والفتنة ثم اعتصاماً بالشورى والإجماع لاستعادة الوحدة والوفاق، إذا كانت صورة النظام السياسي الإسلامي كذلك فإن صورة النظام السياسي الذي ورثناه هي صورة شائنة لأنها مركبة من عناصر السكون لا الحركة، عناصر الركون إلى الواقع والقعود عن التبديل الاجتماعي نحو التي هي خير، وعناصر الاستسلام إلى تقليد الإمام أو الحاكم أو السلطان.

ويشير إلى أنه إذا كانت ملة الإسلام لأول عهدها السني هي دعوة منفتحة تتحرك كل يوم لتتفاعل مع التحديات تجادل وتقاتل وتتعرض للابتلاء، فيؤمن جانب من الناس ويزدادون بالصراع بين الحق والباطل كل يوم إيماناً، ويكفر جانب ويشتطون كل يوم في الكفر، ويتذبذب آخرون بأثر الفتنة فيؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون ثم يكفرون، ومن هذه الحركات من نهضة ونكسة وتوبة تتركب حركة الإسلام المتقدمة إلى الأمام، إذا كانت هذه الصورة المتحركة من الإسلام هي التي سنها الرسول ­ـصلى الله عليه وسلم­ فقد ورثنا تديناً جامداً وملة قوامها العصبية الموروثة، وغدا ابن المسلم مهما كانت عقيدته الباطنة أو سيرته الظاهرة لا يكاد يرى نفسه محتاجاً لكسب طريف من التدين يحقق به إسلامه مجدداً.

ويرى أن الجنوح إلى السكون وإلى القعود عن التفاعل مع الكون والحياة ببواعث الدين هو علة تخلفنا الاقتصادي أيضاً، إذ ركنّا إلى أقدار الكون وركبتنا قوى الطبيعة التي أرادها الله تعالى مركباً لنا إليه، وذلك بأن نسخرها ونجعل من تسخيرها مادة لعبادته، ولكن قوى الطبيعة فتنة للقاعدين تطغى على صحة أجسادهم وبنيتهم بجراثيمها فيمرضون، وتأبى أن تعطيهم عفواً من ثمراتها فيفتقرون، وتحجبهم عن نور العلم بظلماتها وأسرارها فيجهلون، وتأبى عليهم أسبابها فيعجزون.. وهنا يكمن التحدي التكنولوجي الحديث.

اضمحلال العقل الإسلامي

ركز الشيخ محمد الغزالى معركته مع الجمود والحرفية النّصوصية الّتي تغضّ من شأن ملكة العقل فتفلّ عزم المسلمين في مواجهة التحديّات المعاصرة وتكرّس التخلّف الموروث، وقد ألّف في هذا المضمار كتابين: “دستور الوحدة الثقافية” و“السنّة النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث”. وممّا قاله رحمه الله: “إنّ بعض البُله يتصوّر الأنبياء أبواقًا لأمين الوحي يردّدون ما يلقيه إليهم، فإذا انصرف عنهم هبطوا لمستوى الدهماء وخبا نورهم! أيّ غفلة في هذا التصور(3)

وأضاف: “لقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمي هم القادة الموثّقين للأمّة، الّذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بما يتناقلون من آثار.. فلا فقه بغير سُنّة ولا سُنّة بغير فقه، والواقع أنّ كلاَ الفريقين يحتاج إلى الآخر”(4).

يقول الغزالى (رحمه الله): واضمحلال العقل الإسلامي واضح فى أغلب ميادين الفقه! وعدد كبير من المشتغلين بفقه العبادات أو المعاملات يحسن النقل التقليدي أكثر مما يحسن الوعي والاجتهاد، ويغلب عليه ضيق الأفق ولزوم ما لايلزم!! (5)

ويقول: لقد تملكنى – وأنا أؤلف هذا الكتاب – شعور بأنه لا قداسة إلا للوحى الأعلى، ولا مكانة إلا للرجال الذين أحسنوا الفقه فيه والعمل به حيث أقامهم القدر، ويجب أن تغربل الأفكار والمذاهب والأعراف والتقاليد التى سادت تاريخنا، فقدمها لا يعطيها حق البقاء! والاحترام للحق وحده! (6)

ويشير إلى أنه يجب على المتحدثين فى الإسلام أن يرزقوا سعة العلم وعمق الفقه.. إن فقر العلم كفقر الدم لا يعين على نشاط ولا يجود معه إنتاج، وغزارة العلم مع ضحالة الفقه تضليل للسعي وضياع للثمرة، وكثيراً ما أستشعر الضيق فى مواجهة صنفين من الناس، صنف حار العاطفة قليل الدراية، وصنف ظاهر الجحود لأنه لا يدري شيئاً، أو يدري الأمور على نحو بعيد عن الحقيقة(7).

ويوضح أنه كان - أول أمره – لا يرى حرجاً في إغلاق باب الاجتهاد فى فقه العبادات وحده، وقلت: تكفي بعض صور مما استراح إليه الأئمة، ولا حاجة إلى ماوراءها ولو كان مقبولاً، إذا كان للأسد عشرون اسماً فما جدوى معرفتها كلها؟ تكفيني عدة أسماء، إن التوسع فى هذا المجال ربما كان شغل المختصين، أما الجماهير فينبغي أن تذاد عنه وأن تساق إلى ميادين الكدح وسباق الحياة المدنية العارم، أما فقه المعاملات الذي جمد –وهذه مصيبة- من عشرة قرون فإن تجميده عجز فى دنيا الناس وقصور فى دين الله على السواء (8)

ويؤكد أن الاجتهاد فى آفاق المعاملات -كما أسلفنا القول- هو ضرورة إسلامية وإنسانية ولن نملك زمام الحياة العامة، ولن نثبت صلاحيتنا للقيادة وصلاحية ديننا لنفع العالم إلا إذا أجدنا فى هذه المجالات وبهرنا العيون فى النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن قبل ذلك وبعده فى النواحي العبادية، ومع الاجتهاد الفقهي لابد من الموافقات والمخالفات بين المجتهدين، فإذا توافقنا فبها ونعمت، وإذا تخالفنا تعاونا فيما اتفقنا عليه وعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه (9)