جاء من عالم الصوفية إلى المشيخة الأزهرية محملا بأخلاق المتصوفة العظام في الصدع بالحق والزهد في المنصب والتمسك بصفاء الروح والأوراد.. كان قليل الاشتباك مع السياسة، لكن مواقفه الحاسمة أوقفت محاولات من السلطة لابتلاع بعض تعاليم الدين.. شهد عصره أكبر نهضة في التعليم الأزهري.. لم يترك التأليف فله أكثر من ستين كتابا عالجت أغلبها التصوف وتحدثت عن حياة العارفين.

النشأة

 ولد في إحدى قرى مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية في (2 من جمادى الأولى 1328هـ= 12 من مايو 1910م)، ونشأ في أسرة لها مكانتها، فوالده كان قاضيا ومن تلامذة الإمام محمد عبده، فاهتم بتعليم ابنه الأكبر عبد الحليم، فحفظ الصغير القرآن مبكرا، وتخرج في إحدى مدارس المعلمين، وعمل مدرسا لفترة قصيرة، لكن والده أصر أن يلتحق ابنه بالأزهر، فحصل على الثانوية الأزهرية عام 1928، والتحق بالأزهر، وبعد السنة الأولى من دراسته تزوج، ودرس على كبار شيوخه، ومنهم: محمد مصطفي المراغي، وعلي بن سرور الزنكلوني، ومحمود شلتوت.

لم يكتف عبد الحليم بدراسته الأزهرية، ولكن كان يحضر المجالس العلمية للعلامة محمد فريد وجدي، ويتابع الشأن السياسي، والتصوف، والحركة الثقافية التي كانت تعج بها القاهرة في الثلاثينيات، وهو ما أوجد عنده شغفا للعلم، فقرر بعد أشهر من حصوله على شهادة العالمية (التي تعادل الدكتوراه) عام 1932 السفر إلى فرنسا على نفقته الخاصة للدراسة في أرقى جامعاتها وفي السوربون، ودرس علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة، ومقارنة الأديان، وحصل على الليسانس عام 1937.

وأبدى الكثير من الاجتهاد في دراسته مما جعل الأزهر يلحقه ببعثته الرسمية في فرنسا ويتحمل تكليف دراسته، فانتهز الشاب الفرصة للتحضير للدكتوراه، واتفق مع المستشرق "ماسينيون" أن تكون رسالته حول التصوف وعن أحد أبرز أعلامه وهو الحارث المحاسبي، واستطاع رغم ظروف الحرب العالمية الثانية التي اندلعت عام 1939 أن يحصل على الدكتوراه ويعود إلى مصر في يونيو من العام التالي.

وفي مصر عُين أستاذا لعلم النفس في كلية اللغة العربية، واستمر فيها عشر سنوات، ثم انتقل بعدها لكلية أصول الدين في العام 1951، واستطاع أن يحدث فيها تطورات على مستوى المناهج والتدريس، فعين عميدا للكلية عام 1964، ثم اختير عضوا في مجمع البحوث الإسلامية، ثم أصبح أمينا للمجمع، فعندما ألغى جمال عبد الناصر هيئة كبار العلماء عام 1961، بعد نصف قرن من إنشائها، وأنشأ مكانها مجمع البحوث الإسلامية، سعى الشيخ عبد الحليم محمود بعد رئاسته للمجمع إلى تحويله إلى كيان مؤثر في رسم السياسة الدينية في مصر، فسعى أن يكون له مقر ومؤتمر ومكتبة، وأن يختار له أفضل العلماء في تشكيله، في محاولة لسد الخلل الذي أوجده قرار حل هيئة كبار العلماء.

وفي العام 1970 أصبح وكيلا للأزهر، ثم وزير لشئون الأوقاف والأزهر، وفي أثناء توليه وزارة الأوقاف سعى للعناية بالمساجد وتجديدها خاصة المساجد ذات القيمة التاريخية، خاصة جامع عمرو بن العاص، واختار للخطبة فيه الشيخ محمد الغزالي، فدبت الحياة في المسجد العريق، وقصده الشباب، ونحج في استرداد بعض من الأوقاف التي استولت عليها وزارة الإصلاح الزراعي.

تولى عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر في (22 صفر 1393هـ = 27 مارس 1973م)، فكان الشيخ الرابع والأربعين للأزهر، وبعد شهور قليلة صدر قرار من رئيس الجمهور يمنح كثيرا من صلاحيات شيخ الأزهر إلى وزير الأوقاف، فلم يجد الشيخ عبد الحليم أمامه إلا تقديم استقالته احتجاجا، واحتجب في بيته، وامتنع عن أخذ راتبه، فكان للاستقالة تأثيرها السياسي والديني، واضطر الرئيس السادات إلى التراجع عن قراره، ثم أصدر الرئيس قرارا بأن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير في مرتبه ومعاشه. 

وقد وقف الشيخ عبد الحليم محمود ضد محاولات الدولة إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي نص على مواد تخالف الشريعة الإسلامية، وحاولت الوزير عائشة راتب تمرير القانون من مجلس الشعب، فتحرك الشيخ وأصدر بيانا ضد مشروع القانون، فتراجعت السلطة عن مشروع القانون، كما عارض محاولات البابا شنودة الثالث لتأليف كتب دينية مشتركة لتدريسها في جميع المدارس، كما عارض المحكمة العسكرية التي تشكلت بعد عام 1977 لمحاكمة جماعة التكفير والهجرة، بعدما لمزت المحكمة الأزهر ورجاله، وقالت في حكمها عن علماء الأزهر: "فلا هم أدوا رسالتهم وأعلنوا كلمة الحق، ولا هم تركوا أماكنهم لمن يقدر على أداء الرسالة"، فأصدر الشيخ بيانا انتقد المحكمة وتسرعها في الحكم، واتهم المحكمة بأنها تعنتت في تمكين العلماء مع الاطلاع على القضية.

ومن مواقفه النادرة أنه أيد ودعم موقف الطيارين المصريين في شركة مصر للطيران لرفضهم حمل الخمور أثناء رحلاتهم الجوية.

وقد توسع الأزهر في عهده توسعا كبيرا حيث أنشئت الكثير من المعاهد، والتي بني الكثير منها بالجهود الشعبية، فأصبحت المعاهد منتشرة في القرى والأقاليم، كما دعا الشيخ إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وأرسل إلى كبار رجال الدولة خاصة رئيس مجلس الشعب يحثهم على تطبيق الشريعة، وشكل لجنة علمية بمجمع البحوث لتقنين الشريعة، فأتمت اللجنة تقنين القانون المدني وفق المذاهب الأربعة.

كان الشيخ عبد الحليم حاضرا في قضايا المسلمين، فدعا إلى وقف الحرب الأهلية اللبنانية، ودعا إلى وقف الحرب الجزائرية المغربية المعروفة بحرب الرمال، كما كان أول شيخ للأزهر يزور الكونجرس الأمريكي والتقى مع الرئيس جيمي كارتر.

توفي الشيخ عبد الحليم محمود بعد عودته من الحج في 15 ذو القعدة 1397 هـ = 17 أكتوبر 1978م

المؤلفات

أصدر الشيخ أكثر من ستين كتابا تنوعت بين الترجمة والتحقيق والتأليف، غير أنها اعتنت بالتصوف ورجاله، وكان أول ما نشر له قصة ترجمها عن الفرنسية من تأليف أندريه موروا عام 1946، ومن كتبه: "التفكير الفلسفي في الإسلام" و"قضية التصوف: المنقذ من الضلال" و"الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام" و"منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع" و"السنة في مكانتها وتاريخها" و"دلائل النبوة ومعجزات الرسول"، ووضع سيرة مختصرة لحياته بعنوان "الحمد لله هذه حياتي".

وأصدر كتابا عن العديد من المتصوفة والعارفين، مثل: سفيان الثوري، وأبو الحسن الشاذلي، وأبو مدين الغوث، ومن الكتب التي حققها، "لطائف المنن" لابن عطاء الله السكندري، و"اللمع" لأبي نصر السراج الطوسي، و"المنقذ من الضلال" لحجة الإسلام الغزالي، ومن الكتب التي ترجمها "الفلسفة اليونانية أصولها وتطورها" لألبير ريفو، و"الأخلاق في الفلسفة الحديثة" لأندريه كريسون.