قليل ما يجود الزمان برجال "أمة", تجتمع فيهم خصال "الأمة" ومقوماتها التي إن توفرت في مجموع الأمة انتقلت من حالة إلى حالة.. تحرك جمال الدين عطية في الأمة بطابع الفارس الذي شق كل غمار أرضها البكر, حاملًا هم التجديد الحضاري والاجتهاد المعرفي على عاتقه, وكان تحركه على جبهتين جبهة خارجية لمواجهة مشاريع الاستلاب الحضاري والتغريب التي تغلغلت في الأمة, وجبهة داخلية لمواجهة ظاهرة الجمود والتقليد التي تمكنت من العقل والواقع المسلم في ظل حالة التراجع الحضاري للأمة.
وفي ظل ذلك طرح فكرته الفريدة التي تجمع بين أصالة الذات الإسلامية -التي فقدتها الأمة في ظل شوائب عديدة علقت بتلك الذات- وبين شهودها وانفتاحها على العصر الذي غابت عنه بفواعيل عديدة, فطرح "المسلم المعاصر" لتكون أصدق تعبير عن حركة الأمة الحضارية وحاجتها للانتقال إلى مجتمع التحضر المنشود.
المولد والنشأة
ولد جمال الدين عطية محمد في قرية كوم النور، إحدى قرى مركز "ميت غمر" بمحافظة الدقهلية شمال جمهورية مصر العربية وذلك في 12 مايو 1928، لأسرة متوسطة اجتماعيًا، حصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول (القاهرة) حاليًا، وتخرج فيها عام 1948، كما حصل على دبلوم الشريعة من كلية الحقوق عام 1950، ثم سافر إلى الكويت بعد تخرجه، ثم إلى سويسرا ليحصل على الدكتوراه من جامعة جنيف عام 1959، ثم عاد إلى الكويت ليعمل بالمحاماة.
مشروعه الفكري
خط الإمام
يروى جمال الدين عطية عن نواة مشروعه الفكري، الذي تبلور لاحقًا في تأسيس مجلة المسلم المعاصر، أن نواة هذا المشروع كان بدايتها عند حسن البنا، وتحديدًا عند تأسيسه لمجلة الشهاب والتي كانت بداية لتوجه جديد يعاد فيه النظر في توزيع اهتمامات الجماعة عامة وحسن البنا خاصة.
من مكتبة لجنة الشباب المسلم
اجتمع تسعة من شباب الإخوان –وكانوا لا يزالون في مرحلة دراستهم الجامعية– للتفكير معًا في هموم الدعوة ومشاكلها.. وخلال العديد من اللقاءات الطويلة التي تدارسوا فيها أوضاع العمل الإسلامي خارج ساحة الإخوان وداخلها، وفي مصر وخارجها، وتحليل العلل والأمراض، وبحث الاقتراحات والحلول، توصلوا إلى صورة للعمل تتدرج من البدء بأنفسهم إلى العناية بصفوة يختارونها لتلقي برامج مركزة ينقلون بعدها خيرتهم وثقافتهم إلى من يليهم.
عرف هذا العمل باسم "المشروع"، وقد عرض هذا النفر من الشباب خطة هذا "المشروع" على حسن البنا فباركه ووافق عليه وأمر بتفرغهم من أي أعمال أخرى في الجماعة للقيام بهذه المهمة، وقد تم بالفعل اختيار سبعين من صفوة الشباب، وبدأ العمل معهم واستمر حتى داهمت الجماعة أحداث 1948 من حل الجماعة واستشهاد حسن البنا والاعتقالات والقضايا التي توالت وشغلت الجميع وشتت شملهم في مختلف البلدان.
وقد بدأ بعضهم مشروعًا للنشر والتوزيع باسم "مكتبة لجنة الشباب المسلم" وهو الاسم الذي شاع إطلاقه على المجموعة بأكملها بعد ذلك، وكان من أهم ما قامت الدار بنشره رسائل أبي الأعلى المودودي، وكتاب العواصم من القواصم لابن العربي تحقيق وتعليق محب الدين الخطيب.
أما من الناحية الفكرية فقد دفعت جهود هذه المجموعة الكثير من المشروعات في اتجاه أكثر نضوجًا وتبلورًا، فأنشئ على مستوى المركز العام للإخوان قسم للأسر، مهمته العناية بالبرامج التربوية، وقسم للخريجين، مهمته تنظيم عمل الخريجين ومتابعة نشاطهم في مهنهم ونقاباتهم، فضلاً عن تركيز العمل مع قسم الطلاب الذي كان قائمًا منذ زمن بعيد.
كان التركيز في هذه الأقسام الثلاثة على بلورة الأفكار والانتقال بها من مرحلة العموميات إلى مرحلة أكثر تحديدًا، سواء على مستوى الأهداف أو الوسائل، وكان طبيعيًا أن يستفاد بالكفاءات ذات التوجه الإسلامي من خارج دائرة أعضاء الجماعة، فكان التردد على مجالس العلماء والإفادة منهم بدءًا بعباس محمود العقاد، ومحب الدين الخطيب، ومحمود شاكر، وعلى الطنطاوي، ومحمد عبد الهادي أبوريدة وغيرهم.
لقد تابع معظم هؤلاء الشباب دراساتهم العليا وتخصصوا في مختلف الفروع، وتابع بعضهم –كل على قدر استطاعته– رحلة العلم إنتاجًا وممارسة على أساس من التربية الرصينة التي تلقوها، وكان لهم أثرهم في البيئات التي تحيط بهم وفي الأجيال التي عاشوا فيها.
المسلم المعاصر (1974)
من بلاد المهجر واصل أصحاب هذا الاتجاه سعيهم إلى إيصال رؤيتهم إلى الآخرين، وكان الحل الذي توصلوا إليه بعد سعي عدة سنوات هو إصدار مجلة فصلية تكون منبرًا للتعبير عن رؤيتهم، وندوة مطبوعة يتبادلون على صفحاتها الرأي، فكان ميلاد "المسلم المعاصر" سنة 1974م محطة جديدة في هذه الرحلة الفكرية، وقد عبر مقالها الافتتاحي في عددها الافتتاحي عن أهم ملامح هذه الرؤية في مجال الاجتهاد، والحركة الإسلامية، والرؤية العالمية، وإقامة جسور الحوار والتعاون، وحرية الفكر، ووحدة الأمة الإسلامية، وتخطي رد الفعل الدفاعي إلى الإنتاج المبدع البناء، والفهم الأصيل للإسلام مستقلاً عن التأثر بالتيارات الاشتراكية والرأسمالية.
الوظائف التي تقلدها
تقلد جمال الدين عطية عددًا من الوظائف التدريسية والفكرية، والتي مثلت أحد وسائل خدمة فكرته ومشروعه الفكري ودعمه، ومن أهم هذه الوظائف: أستاذ ورئيس قسم القانون كلية الشريعة بجامعة قطر (1993 – 1998)، ومستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي (واشنطن) ومدير مكتبة بالقاهرة (1988 – 1992)، أستاذ زائر بكلية الشريعة بجامعة قطر (1986 – 1987)، مستشار قانوني وشرعي للمعاملات المالية والمصرفية (مكتب خاص في لوكسمبورج) (1986 – 1988)، رئيس تنفيذي للمصرف الإسلامي الدولي في لوكسمبورج (بيت التمويل الإسلامي لاحقًا)، أمين عام الموسوعة الفكرية بوزارة الأوقاف بالكويت (1969 – 1971)، رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر (1974 – حتى وفاته يناير 2017).
إن نظرة سريعة على هذه الوظائف، نجد أنها كانت أكثر من مجرد وظيفة للحصول على متطلبات العيش، إذ مثلت هذه الوظائف: أركان مشروعه الفكري سواء ما يتعلق بالتجديد الفقهي أو الإصلاح المعرفي، وهو ما يشير إلى أنه –رحمه الله- عاش مشروعه حاملاً تصورًا وعملاً، نظرًا وتطبيقًا، وأن عمره كله أفناه في خدمة هذا المشروع وتطويره ونشره.
مجالات الإسهام الفكري والحركي
تعددت مجالات الإسهام الفكري للدكتور جمال الدين عطية، ومنها الإسهام الأكاديمي حيث درس ما يقرب من عشرة مقررات دراسية ما بين الفقه والقانون هي: قانون دولي عام، قانون دستوري، نظرية القانون، نظرية الحق، تاريخ القانون، قانون العمل، نظريات فقهية، فقه مقارن، فقه القضاء، فقه الجهاد.
أما في مجال المؤلفات فقد ألف باللغات الثلاث: العربية، والإنجليزية والفرنسية، ومن أهم مجالات التأليف: القانون الدولي العام (13 مؤلفًا)، الشريعة الإسلامية (60 مؤلفًا)، الاقتصاد والأعمال المصرفية والبنوك الإسلامية (38 مؤلفًا)، القانون الدستوري والسياسة الدولية وحقوق الإنسان (35 مؤلفًا)، الفكر الإسلامي والحركة (52 مؤلفًا)، علم المكتبات والمعلومات (8 مؤلفات)، سيمنارات ومحاضرات مختلفة العناوين (36 مؤلفًا)، أعمال علمية: استشارات وتخطيط وإعداد وإشراف (57 مؤلفًا)، الإشراف على رسائل وبحوث علمية (15 رسالة) موزعة بين باحثين أوروبيين وعرب، الاشتراك في المؤتمرات والندوات العلمية (58 مشاركة، عضوية الجمعيات العلمية والمهنية (11 عضوية).
مجالات التجديد الفكري
تنوعت مجالات التجديد الفكري عند جمال الدين عطية، لأن مشروعه بالأساس هو مشروع نهضة الأمة وهو مشروع شامل يتصل في جانبه الفكري بكل نشاط حضاري يمارسه الإنسان في واقعه الاجتماعي والتربوي، ومن أهم مجالات التجديد التي تفرد بالطرح فيها في العصر الحديث : التجديد الفقهي، مقاصد الشريعة، إسلامية المعرفة.
التجديد الفقهي
في هذا المجال التجديدي يرى أن حل الأزمة الفقهية المعاصرة لا يتحقق إلا بتجديد أداة الفكر الاجتهادي، ومن ثم دعا إلى فتح باب الاجتهاد في أصول الفقه –باعتباره علم المنهج بالنسبة للفقه– وذلك لتطويره من حيث الشكل والمضمون، ومن أهم ما دعا إليه في هذا الميدان: إعادة تبويب المادة الأصولية، اقتراح التجديد في بعض المباحث الأصولية، واعتماد آليات جديدة للاستنباط الفقهي، وتحقيق التكامل بين أصول الفقه ومناهج العلوم الاجتماعية(1).
التجديد في مقاصد الشريعة
تشير إحدى الدراسات التي اهتمت بتحليل جهود جمال الدين عطية في مجال المقاصد بأن ما قدمه في هذا المجال كان سعيًا واضحًا إلى إخراج المقاصد من دائرة التجريد الجاف –الذي اختزلها فيه ثلة من المهتمين بها مما زهد الباحثين في هذا المجال وجعلها بعيدة المنال عند طلاب البحث– إلى تنزيل المقاصد إلى الواقع وتجسيد خلود الشريعة من خلال إظهار قدرة الشريعة المعجزة على مواكبة التحولات والتطورات التي شهدتها البشرية، وبهذا جعل مقاصد الشريعة أقرب إلى النفوس وأحب إلى القلوب... فاشتعل بها الطلاب والباحثون في ما يمكن تسميته صحوة مقاصدية واضحة للجميع(2).
ومن أهم ما كتبه في هذا المجال كتابة القيم: (نحو تفعيل مقاصد الشريعة) والذي اهتم فيه بإثبات دور العقل والفطرة والتجربة –في تحديد وإثبات المقاصد، وترتيب المقاصد فيما بينها، وترتيب وسائل كل مقصد إلى ضروري وحاجي وتحسيني، ونسبية تحديد الوسائل وتسكينها بحسب الزمان والمكان والأشخاص- ثم طرح تصوره الجديد نحو المقاصد من أنواعها وكلياتها ومجالاتها وتفعيلها(3).
إسلامية المعرفة والمسلم المعاصر
سجل جمال الدين عطية رحلته مع إسلامية المعرفة في كتابه إسلامية المعرفة الخبرة والمسيرة، باعتباره أحد رواد هذه الفكرة الأوائل، وأثراه فكريًا بالبحوث المقدمة، كما كان مسؤولًا عن أحد فروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في القاهرة لمدة خمس سنوات أثرى فيها عمل المركز، وحقق رواجًا فكريًا لفكرة المركز في الوسط الثقافي المصري آنذاك.
ولا شك أن المسلم المعاصر –التي أسسها وتولى تحريرها حتى وفاته– كان لها دور بارز في فكرة إسلامية المعرفة ومشروعها التجديدي، حيث مثلت "المسلم المعاصر" مشروعًا ومدرسة فكرية تجديدية نقلت الفكر الإسلامي نقلات معرفية كبيرة خلال القرن العشرين، كما استطاعت تكوين كوادر فكرية لمشروع التجديد للفكرة الإسلامية.
ومن أهم كتاب هذه المجلة والذين فتحت المجلة لها صفحاتها لإبراز أفكارهم التجديدية في المشروع الحضاري الإسلامي: أبو الأعلى المودودي، أبو الحسن الندوي، أحمد الريسوني، أحمد صدقي الدجاني، أحمد فؤاد باشا، أحمد كمال أبو المجد، إسماعيل راجي الفاروقي، جاد الحق على جاد الحق، جعفر شيخ إدريس، حسان حتحوت، حسن الترابي، سيف الدين عبد الفتاح، نادية مصطفى، هبة رؤوف عزت، عبد الحليم أبو شقة، عبد الوهاب المسيري، عماد الدين خليل، وغيرهم من مئات المفكرين والباحثين أسهمت المجلة في نشر أفكارهم وتزويدهم في نفس الوقت بتغذية روافد فكرهم ومنهجهم في إطار الحركة التجديدية للفكر الإسلامي خلال القرن الماضي.