في مقالتنا هذه، نتناول المجموعة الأخيرة من أخلاق المسلم العشرين، التي سجلها الغزالي رحمة الله عليه في هذا الكتاب القيم، وقد تناولنا في المقالة الماضية أخلاق، النظافة والتجمل والحياء والإخاء والاتحاد، وأثرها على الواقع المجتمعي في تقوية أواصره، ووحدة صفه.

اختيار الأصدقاء

اهتم الإسلام كثيرا بعلاقات المسلم مع من حوله، لما للصحبة من أثر عميق في توجيه النفس والعقل، ونفع المجتمع أو ضرره، فإن نمت الصحبة نبيلة خالصة باركها الله وتقبلها، وإن كانت رخيصة مهينة، ردها في وجوه أصحابها.

إن تعاليم الإسلام قائمة على التجمع والألفة، والتعرف إلى الناس والاختلاط بهم، وكره الاستيحاش والعزلة العامة والتقوقع على النفس، قال النبي "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وقال "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل". 

فالمسلم مطالب بالخلوة النافعة، والاختلاط الحسن، فاعتزال الأمة يفوت عليها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضعف جانب الدفاع عن الإسلام أمام خصومه، وهذا يعتبر جريمة، والإسلام مع هذا يعرف طبائع الناس ويتعامل معها بحكمة، وأمر الجميع باعتزال أبواب الفتن، فمنهم من يستأنس بتصفح الوجوه ويحدث القريب والبعيد، ومنهم من يتوارى خلف جدران نفسه أو بيته عن الناس، ضيقة حدود علاقاته.

ولاختيار الصحبة شروط حرص الإسلام عليها، منها أن تكون لوجه الله والحق، فتولد وتكبر على الإيمان والإحسان، لا للأغراض المادية والأعراض الدنيوية، وتلك حقيقة الحب في الله، ولا يعرف هذا الحب إلا من عرف الله أولا، وجعل حياته قائمة على اختيار ما يرضي ربه، ومن ذلك أن يختار الإنسان من يعينه على أمر دينه ودنياه، ولا ينخدع بمن يزين له طريق الغواية، أو يسترسل في أسباب اللغو واللهو، فالطبع يسرق الطبع، وما أسرع أن يسير الإنسان بدون وعي في طريق صاحبه، فللصاحب عدوى، إما أن تكون بالخير، أو تكون بالسوء، وعدوى السيئات أسرع انتشارا بين الناس، فكثير ممن يدخنون مثلا مارسوا التدخين بصحبتهم أولا، لذا قال النبي "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير".

إن الصحبة يجب أن تعتمد على قوة العقائد وسمو الأعمال، وجبر خواطر الأصدقاء، واستدامة مودتهم طلبا لنعيم الآخرة، وراحة الدنيا، لذا كانت صحبة أصحاب رسول الله مباركة، وأخوتهم عميقة، والوصية التي بينهم دوما طاعة الله، يتلاقون بها وعليها يفترقون، شعارهم "تعال بنا نؤمن ساعة"، ومنها تعميق التعارف بين الأصحاب، فيعرف نسبه وأصله، وصفاته وصفات أهله، لأن ذلك يؤسس لتجانس المزاج والتفكير الذي يؤسس لعلاقة قوية إذا ما تقارب الأصدقاء قلبا وعقلا وتفكيرا.

ومن شروط الصحبة تحقق النفع، فالإنسان صاحب المروءة نافع لكل الناس حوله، وهو لأصحابه أنفع، يكون بجوارهم في أفراحهم وأتراحهم، في يسرهم وعسرهم، قال صلى الله عليه وسلم "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه".

العزة

الكبرياء على العباد صفة الله، لأنه ربهم وخالقهم، وهم عبيده ومصائرهم بيده، وعزة العبد في انكساره وذله لربه العزيز، أما التكبر على العباد فلا ينبغي لعبد أن ينازع الله فيه، فلا يتكبر.

إن من العزة أن يبقى الإنسان دائما في طاعة ربه، لا يفارق بابه، مفتقرا إليه، منكسرا بين يدي عظمته.

ومن العزة ألا يشكو الإنسان حاله للناس شكوى المنكسر السائل، وألا يتملق لغني ولا ذي منصب لينال منفعة، وألا يخنع أو يستذل لمتكبر، ومن العزة أن يبقى المرء في المكان الذي يحفظ عليه كرامته، ويهبه الحرية الكاملة، ويجتهد ما استطاع أن يوفر ذلك في بيئته، ومن العزة أن يصون الإنسان نفسه عن السقوط في المعاصي، فهي سبب الخزي في دروب الدنيا، والخسران عند الله في الآخرة، ولا أعز من عابد يتقي الله ويتجنب معاصيه.

 ومن العزة جهاد المرء في نيل حقه، ونصرة دينه، فلا يجوز للمسلم أن يكون مستباحا لكل طامع، وغرضا سهلا لكل هاجم، إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره، فكن عزيزا مادام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان.

الرحمة

الرحمة صفة الله الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، وهي كمال في النفس يجعل المرء يرق لآلام الناس ويسعى لإزالتها، والقسوة انتكاس للفطرة، وأبعد القلوب عن رحمة الله القلب القاسي.

لما أراد الله أن يمتن على العالم بمن يمسح آلامه، ويهديه سبيله، أرسل إليه محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان رحمة للعالمين، علم به الناس الرحمة، علمهم أن الرحمة بالناس والحيوان والطير دليل الكمال وطريق الجنة، والقسوة دليل نقص الإيمان وفساد فطرة وسبيل النار، وأمرهم بالتراحم العام للناس قاطبة، دون تفرقة على أساس العقيدة أو اللون أو العصبيات بأنواعها.

قد تأخذ الرحمة شكلا من القسوة في مصلحة الغير، فالأطفال يساقون للمدارس ويجبرون على المذاكرة، ولو تركوا لأهوائهم لفسدوا، فهنا لابد من الحزم، الذي قد يعده البعض قسوة، وهو عين الرحمة، والطبيب قد يجري جراحة خطيرة يمزق فيها لحم الإنسان، أو يبتر بعض جسده، وهذه القسوة في ذاتها عين الرحمة، فليست الرحمة حنانا لا عقل له.

العلم والعقل 

إن الإسلام يفرض على الأمة أن تكون متعلمة ينعدم فيها نسبة الجاهلين، فحقائق الدين ليست طقوسا تنقل بالوراثة، أو تعاويذ تشيع بالإيحاء والإيهام، إنما حقائق تُستخرج من كتاب الله، ومن سنة واعية، فلابد أن تتوفر الأفهام الذكية للقراءة بالأساليب العالية، ومدارسة مناهج الإسلام، لمد رواق الإسلام، ثم يأتـي بعد ذلك التفكر في الكون، لتتفتق الأذهان عن روائع الحضارة البشرية على أساس الإيمان الثابت الوطيد، ليتيسر للدنيا كشف أسرار الوجود عن علم، ورفض الظنون والخرافات.

 إن العلم للإسلام كالحياة للإنسان، ولن يجد الإسلام مستقرا له إلا عند أصحاب المعارف الناضجة والألباب الحصيفة.

وعلى قدر ذكاء الشخص، واستنارته واستقامة فطرته يكون رسوخ قدمه في الإسلام، فهيهات أن يسبق في هذا الدين بليد الرأي سقيم الوجدان، إن أول ما نزل من القرآن "اقرأ" لتكون صيحة تسمو بقدر القلم، وتنوه بقيمة العلم، وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى في بناء كل رجل عظيم أن يقرأ وأن يتعلم، ولقد سما الله بدرجات العلماء حتى قرنهم بالملائكة.

إن المعرفة الجيدة أسبق عند الله من العمل المضطرب، ومن العبادة المشوبة بالجهل والقصور، فعبادة الجهال قليلة الجدوى، يغلبهم فيها العصبية، وأولو العلم تحكم مسلكهم بصيرتهم الذكية، لذا قال النبي "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".

إن مفهوم العلم في الإسلام واسع، يشمل كل ما يوسع منادح النظر، ويزيح السدود أمام العقل، وما يوثق صلة الإنسان بالوجود، ويفتح آماد الكشف والإدراك، ويتيح له السيادة في العالم، والتحكم في قواه، والاستفادة من ذخائره، وكل علم يوصل إلى معرفة الله، وكل علوم الكون والحياة، والبحث المتواصل في ملكوت السماء والأرض.

 والحقيقة أن علوم الحياة في الإسلام مساوية لعلوم الآخرة في خدمة الدين وتجلية حقائقه، وللمسلم على كل ذلك أجر من الله عظيم.

الانتفاع بالوقت والاتعاظ بالزمن

كل مفقود عسى أن يُسترجع إلا الوقت، إن ضاع لا يعود، وإن من أمارات سلامة الدين أن يقدر المسلم قيمة الوقت، وخطورة الزمن، لذا وزع الإسلام عباداته على مدار اليوم وفصول العام، فالصلوات الخمس تكتنف اليوم كله، والصوم كما الحج كل عام، لكن وللأسف أغلب الناس يعيش حياته عبثا ولا يستفيق إلا في ظلمة القبر، بعد فوات الأوان وضياع الحياة.

إن عمر المرء هو رأس ماله الحقيقي، الذي سيسأل عنه أمام الله، فتضييعه حرام لما فيه من هلاك الفرد وضياع المجتمع، والزمن لا يقف من الإنسان موقف المحايد، فهو إما صديق ودود أو عدو لدود، فمن أراد الله به خيرا رزقه استغلال وقته.

لقد عظم الإسلام قيمة الوقت، وحث على المحافظة عليه من خلال التحفيز على استغلاله يوميا، ولو في عمل قليل دائم، فهو خير من كثير في يوم يعقبه فراغ، والحث على أن يبدأ المسلم يومه مبكرا، ليكون نشيطا طيب النفس مكتمل العزم، فينتج في يومه وينال راحته المطلوبة ليوم آخر جديد.

 والمؤمن يعي ذلك ويعمل به ما استطاع، أما الغافل فيتعاقب عليه الليل والنهار، والعام وراء العام ولا يبالي، ذلك لأن المؤمن اتعظ بما كان في تاريخ الأمم، وتتبع آيات الله في الآفاق، واعتبر من تجارب حياته الخاصة، واستمع لتجارب غيره، فوعى الدرس وتعلمه، والغافل عن نفسه غافل عن عمره، يتخبط في ظلمات نفسه، لا ينفعه نور النهار ولا سكون الليل.