في مقالتنا السابقة تناولنا جملة من أخلاق الإسلام التي أوجب على المسلم أن يتحلى بها، وألا يرتكب من الآثام ما يخالفها، وأن تكون سمته المميزة في معاملاته مع المسلمين وغيرهم، فليس الخُلق الحسن حكرا على المسلمين، وسوؤه من نصيب غيرهم.

القوة

 إن الإيمان إن تغلغل في النفس واستمكن، أضفى على قلب صاحبه قوة، تنطبع هذه القوة في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقا في قوله، وإن اشتغل كان راسخا في عمله، وإن اتجه كان واضحا في هدفه، يعاشر الناس على بصيرة، يعاونهم إن تعاونوا على الصواب، ويعتزلهم إن حادوا عن الحق، فلا تجده يوما إمعة، ذلك على عكس ما يكون صاحب الهوى، مستبعدا عند كل غالب، وجزءا من خطة غيره فلا خطة لحياته يمضي وفقها، ويساير الناس في كل واد يذهبون فيه، فلا تجده نهاية حياته إلا صريع الشتات، بعدما عاش مهزوم النفس.

إن فضيلة القوة ترتكز في نفس المسلم على عقيدة التوحيد، فيرفض الهوان في الأرض، لأنه رفيع القدر بانتسابه إلى السماء، يعيش وثيق العزم، مدركا هدفه، مستفرغا في أمور دنياه وآخرته جهده، معتصما بالله في كل أموره، لا يلتف وراءه إلا بمقدار ما ينتفع به في حاضره ومستقبله، ولا يقف مع هزائم الأمس باكيا ينوح كما الثكالى.

إن قوة الإيمان والبعد عن حياة الخلاعة والمجون، تدفع المرء إلى دوام التوكل على الله، وتجعل من المسلم إنسانا شديد البأس، قوي الشكيمة، مطمئن القلب، يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ معروفة، لا يصانع على حساب الحق وكرامته، ولا يتاجر بالأباطيل، فهو بعيقدته في غنى عنها، غير ضعيف أمام العصاة من الكبراء، لا ينافقهم ولا يُسوّد أراذلهم، لا يتهافت على خيرات الآخرين، ولا يعيش كالثعلب الذي يقتات على فضلات الأسود، وإنما هو يضرب في فجاج الأرض يبتغي من رزق الله مع العزة والكرامة، بهذا كله يصير المسلم سيدا لعناصر الكون كلها، كما أراد الله له، محمودا في دروب السماء والأرض، كما يحب الله له، على غير ما يكون ساقط المروءة من البشر ملعونا في الأرض والسماء، لا قيمة له في ميزان الرجال الفضلاء.

 

الحلم والصفح

الإنسان العظيم كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، والتمس المبررات للناس، إن الغضب يشتط بأهله إلى حد الجنون، والرجل العاقل يتعالى على الرد على شتائم الناس بشتائم، وعلى الجهل بجهل مثله، لقد كان رسول الله يُستغضب أحيانا، غير أنه ما يجاوز حدود التكرم والإغضاء، والمحفوظ من سيرته أنه ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله بها، إن الشخص الغضوب كثيرا ما يذهب به غضبه مذاهب حمقاء، فيسب ويلعن ويكسر ويخرب، وقد جاء الإسلام ليقيم أركان المجتمع على الفضل، وإلا فعلى العدل، وهذا لا يتحقق إلا إذا هيمن العقل على أبنائه، فكل مظاهر الطيش والتعدي والانفلات والطعن واللعن يرفضها الإسلام ويحاربها، وعلى المسلم أن يتنزه عنها، وكلما زاد الإيمان في القلب زادت معه السماحة والرحمة، والصفح والحلم، وغلب حلم المرء غضبه، وعفوه عقابه، وكظم غيظه ولو كان على إنفاذه قادرا مستطيعا.

الجود والكرم

يقوم الإسلام على البذل والإنفاق، ويكره الشح والإمساك، لذا حبب إلى بنيه الجود والكرم، والإحسان والبر، وأن يجعلوا من أموالهم ما يسعفون به المنكوبين، ويريحون المتعبين، حتى لا يبقى في بلادنا محروم معدم، ولا غني محتكر، فإن ضاقت حالهم ولم يجدوا فبقول لين ميسور.

سلك الإسلام لغرس الجود في النفوس، طرائق محكمة، منها تنشئة النفوس على الخير وصنع المعروف، ومخاصمة الشح والبخل، فإن الأموال المستخفية في الخزائن، المختبئ فيها حق المسكين والبائس، شر جسيم على صاحبها في الدنيا والآخرة، ومنها بيان أن الصدقة تغسل الذنوب وتمسح الخطايا، وتبطل كيد الشيطان، وتقتل وساوسه.

قد يظن البعض أن السخاء ينقص الثروة ويقرب من الفقر، وهذا من وساوس الشيطان، والحق أن الكرم والجود والسخاء سبب نماء المال، وبسط عطاء الله لعباده، فالمنفق مكفول من الله في يومه وغده، تحرسه عين الله، وتكلؤه عنايته.

 

الصبر

على المسلم أن يوطن نفسه بالصبر على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج دون تعجل، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، فإن الابتلاء لا محيص عنه.

والصبر يعتمد على حقيقتين أولاهما: تتعلق بطبيعة الدنيا، فإن الله لم يجعلها دار جزاء وقرار بل دار تمحيص وامتحان، وحياة المرء فيها فترة تجارب متواصلة بين نعم تستحق الشكر، وبلاء يستحق الحمد، وثانيتهما: تتعلق بطبيعة الإيمان، حيث هو صلة بين العبد وربه، ولابد أن تخضع هذه الصلة للاختبار والامتحان، حتى يتبين أصالتها من زيفها، وقوتها من هشاشتها "ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".

الصبر أوسع عطاءات الله للعبد، وهو صفة من صفات الله الصبور، ومن معالم العظمة، وسيطرة النفس على ما حولها، وهو في حق الرجال بطولة، فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والذين صنعوا الحياة، وخاضوا غمارها، أصابهم من وعثاء التعب والنصب والكدر الكثير، بينما القاعدون في بيوتهم لا يصيبهم غبار الطريق.

إن الإسلام لا يمجد الآلام لذاتها، ولا يكرم الأوجاع لأنها تستحق، وإنما يحمد لأهل البلوى صبرهم، ولأصحاب المتاعب رباطة جأشهم، وإن كانت البلايا تغفر الذنوب وترفع الدرجات، فإن الإسلام حرم طلبها وأمنيتها، وشرع للمسلم أن يسأل الله العافية وأمره بذلك.

إن الصبر والتريث والانتظار خصال تتسق مع سنن الكون ونظمه، فالزرع لا ينبت ساعة البذر ولا ينضج ساعة النبت، بل لا بد من المكث شهورا حتى نجني منه الحصاد المنشود.

والصبر أنواع، صبر على الطاعة فالعبادات تحتاج جهدا وصبرا، وصبر عن المعصية فالنفس تحتاج مجاهدة وعزما، وصبر على النوازل فالحياة لا تخلو منها.

 

القصد والعفاف

الإسلام يوصي بالاعتدال في كل طيبات الحياة، في ملابس الإنسان فلا يباهي أو يختال بها، فإن الله لم يخلق الجسم معرض أزياء، وليس من الخير أن يضيع المرء جل عمره في استكمال وجاهته وأناقته، وأيضا لا يقبل الإسلام من المرء أن يلبس الملابس الرزية المرقعة البالية، ولا يحب أصحاب الهيئات المستكرهة، وإنما يلبس المرء ما لا يزدريه فيه السفهاء، ولا يعيبه عليه الحكماء، وهو على هذا مطالب بالتجمل وحسن السمت، والحرص على جمال الباطن والظاهر.

إن الإسلام يحب البساطة في تأسيس البيوت، ويكره الإسراف بما يجعل من بيوت الناس زينة لا حاجة إليها إلا لكبرياء النفس، ولا يمانع أن تقام في الوقت ذاته بروج مشيدة للمدارس والجامعات والمستشفيات والملاجئ والمحاضن، فكل ذلك في صالح الأمم باق لأجيال وأجيال.

إن من أسباب تصدع بنيان الأمم، وسقوط رايتها، ضياع العفة وشيوع الملذات، وإن من الفضيلة أن تملك الدنيا لتسخرها في بلوغ المثل العليا، لا أن تملكك هي فتسخرك لدناياها، إن السمت الحسن والاقتصاد والتؤدة والاعتدال من أخلاقيات الدين، ومعالم النبوة.