تناولنا في مقالتنا السابقة أهمية الأخلاق في الإسلام، ومقام التربية السلوكية للنفس في الشريعة الإسلامي، وأن الإسلام جاء ليتمم أخلاق المجتمع، ويقيمه في حياة هادئة آمنة، ينبع من داخل نفوس أبنائه الحرص على سلامته وبقاء أمنه، وكذلك تناولنا فلسفة الصدق في الإسلام، وبيان فضله، وعاقبة الكذب، على الأفراد والأمة.
الأمانة
أوجب الإسلام على المسلم أن يكون أمينا، يقظ الضمير، مستشعرا أنه مسئولا أمام الله عن كل من يرعاه من إنسان، وما يرعاه من مال وعمل.
وللأمانة معان شتى، وأنواع متعددة، مثل أمانة وضع كل شيء في المكان الجدير به، وأمانة المسئولية، وأداء واجبات العمل كاملة، وعدم استغلال المنصب في المصالح الشخصية، واستخدام نعم الله، من مال وحواس وأهل وغيرها في التقرب إلى الله، وعدم الاستعانة بشيء من نعمه سبحانه على معصيته، وأن تحفظ أسرار المجالس التي تشارك فيها ولا تفشيها، إلا أن يكون مجلس يُمكر فيه لإحداث الفساد، أو المكر بالدين وأهله، ومن الأمانة حفظ أسرار العلاقة الزوجية، وما يغلق عليه باب البيت من أسرار العشرة، وحفظ ودائع الناس وردها إذا ما طلبت.
والأمانة بهذه المعاني ما لم تستقر في النفس لم تتم على وجهها الأكمل، لذا حرص الإسلام على غرسها بكل سبل التحفيز، وعد حفظ الأمانة من صفات الرجال الأقوياء، وعد ضياعها علامة من علامات فساد المرء، وذهاب دينه، وإهمالها في المجتمعات علامة من علامات فساد أهل الزمان، واقتراب نهاية الدنيا.
الوفاء
في الإسلام لابد من الوفاء بالعهد، واحترام العقد، والبر باليمين، ما تعلق الأمر بالخير والحق، فلا عهد ولا بر في شر وباطل، ويحتاج الوفاء لعنصرين يسهل بهما ويُنجز، أولهما دوام الذكر لمجابهة النسيان، وعزم وإصرار على إنفاذ العهد والوفاء به، فثمن الوفاء قد يكون فادحا مما يوهن عزيمة الرجال عن إنفاذه، "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما" كان العاملان هما النسيان وضعف العزيمة.
والعهود التي يرتبط بها المسلم درجات، أعلاها وأقدسها العهد مع الله، وهو أساس كرامة الدنيا، وسعادة الآخرة، فيَفي الإنسان بحق الله في نفسه وماله وأهله وعمله بأداء كل ما أوجبه الله عليه، وترك ما نهاه عنه.
ومن الإسلام الوفاء بعقود التجارة والبيع والشراء وبنودها ما اتفقت مع حدود الشريعة، وإلا فلا يكلف المرء بالوفاء في الحرام، والوفاء بعقد الزواج وما اتفق عليه الزوجان وأهلهما، إذ بها تستحل الفروج، وتقوم الأسرة.
ومن الوفاء أن يربط المسلم بين حاله بالأمس واليوم والغد، فيذكر تقلبه في نعم الله أمس إن افتقر اليوم، أو تنعمه بالعافية أمس إن مرض اليوم، فلا يبلغ الجحود لضر أصابه في يومه، ناسيا ما كان من خير في أمسه، وهذا معين له على الرضا بأقدار الله.
ومن الوفاء سداد الديون وعدم المماطلة فيها أو إرجائه، ولذا حرم الإسلام الاستدانة إلا لحاجة قاهرة، فإن الله يعذر في ذلك وإن تعسر على المسلم الوفاء، أما المستدين لشهوة، وما لا حاجة ضرورية إليه فذلك سارق جريء، وقد أوجب الدين العمل بإجراءات تضمن لصاحب الحق حقه، وتلزم المستدين بالوفاء.
والوفاء بالحقوق واجب مع المسلم وغيره، فإن الفضيلة لا تتجزأ، ولا يبيح الإسلام الوفاء مع قوم، والخسة مع آخرين.
الإخلاص
إن الإسلام يرقب بعناية فائقة، ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات، وقيمة العمل فيه ترجع قبل كل شيء إلى طبيعة البواعث التي تمخضت عنه، إن آلاف المسافرين يقطعون الطريق بين مكة والمدينة، لأغراض شتى، لكن تبقى النية هي التي تفرق بين المهاجر والمسافر، إن صلاح النية وإخلاص القلب لله يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي إلى عبادة متقبلة، والمرء ما دام أخلص الوجه لله، فإن حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته، تحتسب خطوة إلى مرضاة الله، وتفاوت الأجور على الأعمال يعود إلى سر الإخلاص الكامن في الصدور، فعلى قدر نقاء السريرة تكتب الأضعاف، ولا يبقى للمرء ساعة الشدائد إلا الإخلاص.
إن الإسلام يكره الرياء، ويعتبره شركا بالله، ومصير صاحبه الجحيم، لأنه يفسد معتقده، وما يصيب المجتمع من مصائب الفضلاء المنافقين، أنكى من مصائبه التي ينزلها به معتادو الإجرام من الصعاليك، وإن الإخلاص العميق ألزم ما يكون لميادين العلم والثقافة، لأن العلم أشرف ما ميز الله به الأكرمين من خلقه، والعالَم لم تصبه الجراحات القاتلة إلا بعد انحراف العلماء، لذا أوجب الإسلام على المعلم والطالب أن يخلصا لله عملهما.
أدب الحديث
نعمة البيان من أعظم نعم الله على العباد، لذا وجب شكرها، وعظم حقها، وقد عني الإسلام بالكلام وأسلوب أدائه، وعليه ينبغي للإنسان أن يسأل نفسه قبل أن يتحدث للآخرين، هل هناك داع للكلام، فإن لم يكن فالصمت أولى به، وقلة الكلام استجماع للفكر، وترتيب للذهن.
إن اللسان حبل مرخي في يد الشيطان يصرف صاحبه كيف يشاء، والبعد عن اللغو دليل إيمان العبد، وقد ذكر الله تلك الميزة بين الصلاة والزكاة في أول سورة المؤمنون، ولقد كره الإسلام اللغو، لأنه يكره التفاهات وسفساف الأمور، فضلا على أنه مضيعة للوقت عن الانشغال بالجد والإنتاج، وصد القلب والنفس عن ذكر الله.
إن الشيطان متربص بالبشر، يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وكم من كلمة أضرت وفرقت، وكلمة طيبة نفعت وجمعت القلوب وطيبت الخواطر، لذا تجد عظماء الناس معلومين بطيب قولهم، وحسن منطقهم، والإعراض عن سفهاء الأقوال، سليطي اللسان، وهذا لا يعني هذا قبول الدنية، وإنما هو ضبط النفس، وارتقاء العقل.
لقد حرم الإسلام الجدل إلا في غرض نبيل مع أهل علم لا أدعياء معرفة، لما تؤول إليه نهاية الجدل من الخصام والشقاق، ويكره الإسلام مجالس القاعدين الذين يقضون وقتهم في تتبع العورات والتسلي بشئون العباد.
سلامة الصدر
ليس أروح للمرء ولا أطرد لهمومه، من أن يعيش سليم القلب، يسعد بما ينساق إلى الناس من نعم، فيستشعر حاجة الناس إلى الله، ويتألم لما يصيب الناس من ضر ويرجو من الله فك الكرب.
إن الإسلام يكره الخصومة، لأنها تطيش بألباب ذويها، وتعميهم عن الفضائل، وتضخم الرذائل، وتسبب افتراء الكذب، والله سبحانه لا يرضى أن تنتهي الصلة بين مسلم ومسلم إلى هذا المصير السيئ.
إن الإنسان في كل نزاع ينشب أحدُ رجلين إما ظالم وإما مظلوم، وقد أمر الإسلام الظالم الذي عليه الحق بالاعتذار وجبر خاطر أخيه، والمظلوم الذي له الحق باللين والتسامح وقبول الاعتذار والاستغفار لأخيه.
لقد حرم الإسلام كل رذائل الحقد النابعة من القلب المريض، مثل الافتراء على الآخرين، لأنه من أقبح الزور، وحرم استحلال عرض المسلم، والتشنيع به، والغيبة والبهتان، والتفريق بين القلوب والصفوف بالنميمة، واللمز وتتبع العورات، وتعيير الناس بعاهاتهم، أو صفاتهم البدنية والنفسية، وتتبع عوراتهم لأن متتبعي العورات لفضحها أشد إجراما وأعظم ذنبا من الواقعين فيها، وحرم الحسد وأمر بالاستعاذة من شرور الحاسدين، إذ يكرهون النعم لعباد الله وإن لم تكن لهم أو كانت لهم، فهو مرض في النفس يفتك بإيمان المرء ويفسده.
إن المسلم مطالب أن يكون سليم القلب، جميل الطباع، ينافس في الخير، ويجتهد في الطموح للأعلى، ولا يحسد ولا يحقد ولا يتمنى لغيره ما لا يحب لنفسه.