د. فتحي يكن .. شيخ الدعاة
ولد فتحي محمد عناية يكن يوم 9 فبراير/ شباط 1933م على أرض الفيحاء بطرابلس (لبنان)، وهو من أصول تركية.
نشأته الاجتماعية
نشأ يكن في أسرة متدينة محافظة تعتبر النظام أساسا للتربية، مداومة على عمل الحلقات والاحتفالات الدينية في المناسبات وغيرها، وتمتع باهتمام خاص من والديه وأجداده. تأثر بجدته لأبيه (السيدة وسيلة) - رحمها الله - وكانت امرأة صالحة لا تفارق القرآن والذكر والدعاء ولا يفارقها، وهي التي تعهدته بالتربية الصالحة وحب التدين، كما تأثر بجده لأمه (حكمت يكن) رحمه الله، وكان عَلَمًا من أعلام الفكر، وكاتبًا ومؤرخًا خلَّف وراءه ثلاثين مخطوطًا في (تاريخ الأديان) وعددًا من المؤلفات في شتى العلوم. عايش الواقع المحيط به، فتارة متفرجا، وتارة مشاركا، وتارة متظاهرا ومحركا للأحداث والوقائع، وكانت أهم الأحداث التي غيرت في حياته، اقتحام قوات الجيش والأمن تظاهرة الطلاب المنددة بالانتداب الفرنسي على لبنان بالدبابات والأسلحة، مما أوقع عشرات القتلى والمصابين بين صفوف الطلاب المتظاهرين. أخذ كذلك عن والده (محمد عناية) رحمه الله، الكثير من خصال: الجدية والحزم والانضباط والانتظام التي تميزت بها شخصيته، أما والدته رحمها الله (عائشة) فكانت كتلة من العاطفة والحنان والطيبة، تطيل تلاوة القرآن، ولا تمل من قراءة كتاب (دلائل الخيرات).
نشأته الدعوية
أما في محيط الدعوة والفكر فقد تأثر بعدد من السابقين في مجال العمل الإسلامي، على رأس هؤلاء الإمام حسن البنا، وسيد قطب، والشيخ الدكتور مصطفى السباعي بعد إبعاده من سوريا إلى لبنان حيث عايشه وتعلم منه ونسج على منواله حتى مماته، وغيرهم الكثير من أعلام الصحوة الإسلامية رحمة الله عليهم أجمعين. اعتلى يكن المنابر ومارس الخطابة في مسجد أبي سمراء القديم، بعدما رشحه رجالات الدعوة لسعة علمه واتزان فكره وتميز أسلوبه، وكان يصلي فيه رجال البعثة الأزهرية، ومفتي طرابلس، وقامات وشيوخ الدولة.
حياته الاجتماعية والعلمية
حصل على دبلوم في الهندسة الكهربائية من كلية اللاسلكي المدني في بيروت، بعدما أنهى دراسته الثانوية في المدرسة الثانوية الأميريكية في طرابلس، وحصل كذلك على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من جامعة كراتشي في باكستان، وكان مهتما بقضايا الدعوة والعمل الحركي والسياسي. تزوج يكن من الدكتورة منى حداد يكن، الحاصلة على الدكتوراه من جامعة السوربون، مؤسسة العمل النسائي الإسلامي في لبنان، ورئيسة جامعة الجنان التي أسستها مع زوجها خلال مسيرة حياتهما، وكانت هذه الجامعة تتويجا لمسيرة من العمل التربوي بدأت بروضة جنان، ثم ثانوية جنان، ثم الجامعة التي اتسعت هيكلتها وتعددت مراكزها في بلاد عربية وأوروبية، وكانت زوجته من القليلات اللاتي عرفن بتميزهن في مجال الفكر والدعوة، وكان له أربع بنات وابن، وتسعة عشر (19) حفيداً وحفيدة، يداوم أسبوعيا برغم همومه على جمعهم ومناقشة أمورهم، وقد كان في بعض الأحيان يعد لهم الطعام بنفسه، مستشعرا حقهم عليه أمام الله.
مسيرته الدعوية والسياسية
كان أهم ما ميز فتحي يكن نجاحه المتفرد في الجمع بين العمل الدعوي والسياسي، فقد مارس السياسة من منطلق دعوي إسلامي منضبط ومعتدل، يتماشى مع تغيرات العصر، كان لا يرى انفصالا بين العمل الدعوي والسياسي، لذا انخرط في العمل الإسلامي والسياسي في لبنان منذ خمسينيات القرن العشرين، وكان من الرعيل الأول الذين أسسوا مدرسة الاعتدال في لبنان في عقد الخمسينيات، متأثرا بجهود دعوة الإخوان المسلمين، وكان أحد أهم رجالات الصحوة الإسلامية عربيا وإسلاميا، وأصبح بين 1962 و1992 أميناً عاماً للجماعة الإسلامية. وُصف أداء يكن السياسي بالمعتدل، وحظي باحترام الوسطين الإسلامي والسياسي اللبناني والدولي بشكل عام، فقد انتخب عضوا في مجلس النواب سنة 1992 عن منطقة الشمال، حيث قدم استقالته من المسؤولية للتفرغ للعمل السياسي، وأسس جبهة العمل الإسلامي مع المحافظة على عضويته في الجماعة الإسلامية، وألف وكتب عن تجربته النيابية، وقد جمع فيها بين الفكر الدعوي والسياسي محاولا إصلاح ما أصاب المجتمع من تراجع وتأخر وخلل، وقد جال العالم مقربا وموحدا بين جبهات الدعوة والعمل السياسي، فأنهى أكثر من أزمة بين الأنظمة والمعارضة، والكيانات الإسلامية والسياسية المختلفة، متعاليا فوق الخلافات وإن أصابته بأذى أو ضرر، داعيا إلى نبذ الخلافات المذهبية والفكرية، والتمسك بوحدة الصف في نصرة الإسلام ونفع الناس وبناء الأوطان.
وتولى إبان هذه المرحلة مبادرة سياسية للخروج من أزمة السلطة القائمة بين الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة وحلفائها، والمعارضة بقيادة حسن نصر الله وميشال عون ونبيه بري، وتوج نجاح المبادرة بأن أم المصلين وخطب الجمعة في أكبر تجمع للمعارضة يوم الجمعة 8 ديسمبر 2006 في ساحة رياض الصلح في بيروت في خضم الأحداث الدامية التي عصفت ببيروت حينها. اتخذ موقفا صارما حازما من العدو الصهيوني، وموقفا مناصرا للمقاومة الفلسطينية، واحتلت القدس وقضية فلسطين أولوية ومكانة عالية من مسيرته، وكان يرى أن كل ما يحاك في الدول العربية والإسلامية من مؤامرات ومكايدات يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وكانت بوصلة فكره دوما موجهة نحو الأقصى وتحرير الأمة، فأسس إذاعة صوت لبنان الحر أثناء الحرب اللبنانية، لتنطق بلسان المقاومة في فلسطين ولبنان، وكان يؤمن بأن العمل الجهادي والمقاومة هو الحل الأول لوقف غطرسة اليهود في بلاد المسلمين.
أثره في الخطاب الإسلامي
كان يكن منذ نعومة أظفاره في حقل الدعوة، يسعى إلى حسم الجدل الدائر في أوساط الأمة الإسلامية حول ازدواجية الخطاب السياسي الإسلامي، فقد كان يرى أن الساحة الإسلامية تعاني من تقليدية الخطاب السياسي الإسلامي ورتابته وجموده، وأنه في حاجة ماسة وملحة إلى التطوير بما يواكب متغيرات العصر، ويلامس قضايا الناس المتغيرة، ولا يغفل أصول الإسلام وثوابته، حتى تكون الصحوة الإسلامية المنشودة والمرتقبة على مستوى العصر.
مؤلفاته
بناء على نهج الاعتدال الديني وثوابت الدعوة ساهم يكن في التأصيل والتنظير للصحوة الإسلامية المعاصرة برغم انشغالاته الدعوية والسياسية، وانتشرت مؤلفاته ورسائله الفكرية في العالمين العربي والإسلامي، فكانت منارة لجيل الصحوة الإسلامية، ترشدهم إلى معالم الفكر والدعوة الصحيحة، إذ تميزت كتبه ومؤلفاته بسهولتها وعمقها وخبرته العملية الواسعة والمتنوعة، فلا هي الطويلة المملة ولا القصيرة المخلة، وزادت مؤلفاته ورسائله على 35 كتابا، ترجمت معظم إسهاماته إلى لغات عدة.
من أبرز مؤلفاته: مشكلات الدعوة والداعية - كيف ندعو إلى الإسلام؟ - نحو صحوة إسلامية في مستوى العصر - الموسوعة الحركية (مجلدان) - نحو حركة إسلامية عالمية واحدة - حركات ومذاهب في ميزان الإسلام - الاستيعاب في حياة الدعوة والدعاة - المناهج التغييرية الإسلامية خلال القرن العشرين - قطوف شائكة من حقل التجارب الإسلامية - الإسلام فكرة وحركة وانقلاب - الشباب والتغيير - ماذا يعني انتمائي للإسلام – قوارب النجاة في حياة الدعاة - المتساقطون على طريق الدعوة - أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي - ليت قومي يعلمون (طبع بعد وفاته وكان آخر ما كتبه) وغيرها من المؤلفات الأخرى، وقد مثلت كتبه وأدبياته قائمة منهجية تربوية وحركية وفكرية لأجيال الصحوة الإسلامية في بلدان العالم المختلفة، فلا تكاد تخلو مكتبة للحركة الإسلامية في الدول الإسلامية بمحافظاتها وقراها من بعض كتبه. وقد ألقى عددا من المحاضرات، وشارك في عدة منتديات دولية وإقليمية، كما أنه أنشأ مؤسسة الداعية فتحي يكن الفكرية الإنسانية، ليترك بذلك ميراثا علميا فكريا وحركيا للدعوة ثريا، استفادت منه أجيال الصحوة المتعاقبة.
وفاته
ظهرت بوادر المرض على يكن في العام 2008 وتحديدا وقت الحرب التي شنها اليهود على غزة، وعلى أثر مرضه توفي الداعية الإسلامي والمخضرم السياسي، والمفكر الألمعي، عن عمر ناهز الست سبعين عاما (76 سنة)، جراء إصابته بجلطة دماغية وذلك عصر يوم السبت 13 يونيو/حزيران 2009، 20 جمادى الثانية عام 1430هـ، وفي جو حزين شُيع جثمانه يوم الأحد 14 يونيو 2009 بحضور الآلاف المؤلفة من تلاميذه ومحبيه وبمشاركة وفود رسمية ممثلة عن رؤساء وحكومات بعض الدول، وأخرى عن الحركات الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية المختلفة، ليخسر العالم الإسلامي، ومدرسة الاعتدالوالكيانات السياسية على وجه الخصوص، رجلا من أنضج وأميز وأفهم رجال الأمة لواقعها المرير وسبل تغييره، قلما يجود الزمان على الأمة بمثله رحمة الله عليه.