نستكمل في هذه الحلقة قراءة وتحليل كتاب دعاة لا قضاة, وأهم القضايا والآراء التي تناولها الكتاب في فترة حساسة ومهمة من تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة.

يتناول الكاتب رؤية الحركة الإسلامية لمفهوم (إن الحكم إلا لله) فالكتاب موجه بصفة رئيسية إلى أبناء الحركة الإسلامية، وسعى الكاتب من خلال هذا الفصل إلى إقرار بعض النقاط الأساسية التى يجب أن تبنى عليها عقيدة المسلم.

- فبين الكاتب أن من اليقين -الذي لا شك فيه- أن الحكم لله وحده، فهو وحده صاحب الأمر والنهي، فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، وأن شريعته –تعالى- هي الحق وما دونها باطل، وهي وحدها الشريعة المُلزمة، الواجبة النفاذ، والتي لا يجوز التحاكم إلا إليها، وأن من اعتقد أن لأحدٍ الحقَّ في التحليل والتحريم بغير سلطان من الله ولم يكن متأولاً في ذلك آية أو حديثًا، فهو كافر مشرك، فإن من مقتضى التوحيد الإقرار بأنه –تعالى- صاحب الأمر المطلق، وأنه المستحق للاتِّباع والانقياد المطلقيْن، ومقتضى ذلك تنفيذ أمره والعمل بموجبه، فإن الله لم يُرد منَّا مجرد الإقرار بوجوب طاعته، بل بطاعته فعلاً، وأن من اعتقد بعد بلوغ الحقِّ وقيام الحجة أن العمل بشريعة الله –تعالى- متوقفٌ على إذن شخص أو هيئة فقد جعل من هؤلاء حكامًا على الله –تعالى- وشركاء له في حكمه.

الجهل بالشرائع  

يرى الكاتب أن من جهل تفاصيل ما أرسل الله به رسُله من الشرائع فهو معذور بجهله ليس بكافر ولا فاسق ولا عاصٍ، لا يُستثنى من ذلك إلا ما ورد به النص، وأجمع عليه المسلمون، من أنه لا يُسمى مسلما من لم يأت به وهو الشهادتان؛ ولهذا قالوا: إن هذا معلوم بالضرورة من الدين، من جَهِله لا يعتبر في هذه الدنيا مسلمًا، ولا يعامل معاملة المسلم، وأكَّد على ضرورة التفريق بين العقيدة الفاسدة التي توجبُ الشرك بالله –تعالى-، وبين جهل المرء بمجموع الشرائع أو ببعضها، واعتقاده بناءً على ذلك أن شريعة الله لا تحكم إلا جوانب محددة من حياته، وأن الله قد ترك للناس حرية تنظيم ما وراء ذلك، فإن هذا الجهل الأخير ليست فيه شبهة الشرك أو الكفر؛ لأن الله -عز وجل- لم يأمرنا قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور، وكذلك النهي ولا فرق.

وأما قبل بلوغ الأمر والنهي فإنه غير مأمور ولا منهي لقوله تعالى: "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُلْ لَا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ" [الأنعام: 19]، فالجاهل معذور بجهله إلا أن يكون قد بلغه النص بأنه عليه أن يسعى؛ لمعرفة حكم الله فيما نزل به فقعد عن السعي: فإن كان قعوده جحودًا؛ لوجوب السعي فهو كافر وإلا فهو عاصٍ من العصاة

ونقض بهذا التقرير قول من ادَّعى بأن من تصور أن الربوبية والعبادة إنما تقتضي إقامة الشعائر فحسب، فإن عقيدته تكون فاسدة ولا يُعتبر مسلمًا؛ لأن مدار المسألة على بلوغ الأمر للمأمور، فإن كان كل ما بلغه من الدين هذه الشعائر، وظن أنها هي كل ما أمر الله به عباده فهو معذور بجهله، والواجب علينا أن نُعلمه، وهو من قبل ذلك مسلم لا يُنقص جهله بتلك الشرائع من سلامة عقيدته شيئًا.

التشريع المطلق  

أكد المؤلف أن التشريع المطلق حقٌّ لله -عز وجل- وحده، وأن من زعمه لنفسه فقد جعل نفسه ندًّا لله -عزَّ وجل-، كما أكد على وجوب الاعتقاد بلزوم الرد عند التنازع إلى الله ورسوله، وأن من اعتقد بعدم لزوم ذلك أو بوجوب الردِّ إلى غير شريعة الله -عز وجل-، أو أنه يريد التحاكم إلى غير هذه الشريعة فإنه يكون قد أعلن عقيدته الفاسدة، وأنه بذلك كافر مشرك شرط البلاغ وإقامة الحجة، وأكد على ضرورة التفريق بين هذه العقيدة الفاسدة وبين جهل المرء ببعض الشرائع، وظنه -بناء على ذلك- أن شريعة الله لا تحكم إلا جانبًا من حياته، وأنها تركت له الحرية فيما وراء ذلك، وجعلته في دائرة العفو، ومن حكم بفساد عقائد الناس بناءً على هذا الفهم فقد غلط

كذلك أكد على ضرورة التفريق بين هذه العقيدة الفاسدة وبين من يعتقد تأولاً أن من الشرائع ما يتبدل ويتغيَّر تبعًا لتغيُّر الأزمان وتبدُّل الظروف والمناسبات، أو أن لأولي الأمر حق إصدار التشريعات الملزمة مع جهلهم المقصود بأولي الأمر أو بحدود ما تجب طاعتهم فيه من هذه التشريعات؛ لأنه لم يجعل من تبدل الظروف أو طاعة أولي الأمر ندًّا لله، بل توهم أن الله -عز وجل- هو الذي أباح له ذلك وأذن فيه، وهو معذور بخطئه في ذلك.

التأويل

وبيَّن المؤلف أن هذا التأول يجب أن يكون له وجه تسمح به لغة القرآن، وخارجًا عما وقع فيه الإجماع، وبات بعيدًا عن مواضع الاجتهاد واحتمال الخطأ والتأويل، وأن هذا المتأول تُقام عليه الحجة التي لا محل للجدل بعدها، فإن أقيمت على وجهها من أهلها وعاندها فهو كافر مشرك.

وعلى هذا فالوهم الذي وقع فيه العامة من اعتقاد أن لأولي الأمر الحق في إصدار القوانين والتشريعات بناءً على ما تأوَّلوه في بعض النصوص ليس فيه شبهة الكفر أو الشرك، بل هو اعتقاد في أصله صحيح، وإن حدث خللٌ في تحقيق مناطه، فإن الاعتقاد بقداسة أولي الأمر وحقِّهم في التحليل والتحريم أمرٌ معدوم الوجود بين عامة المسلمين، والواجب في مثل ذلك هو البيان وإزالة الشبهة.

ثم بين بعد ذلك أن هذه الأصول الثلاثة: (الجهل، والخطأ، والإكراه) مما أجمع على صحته واعتباره علماء المسلمين وإن حدث خلاف في بعض التفاصيل المتعلقة بها، ثم حرص على التفريق بين عمل القاضي وعمل الداعية، فالأول يشتغل بإجراء الأحكام الشرعية وتطبيقها على وقائع فردية بعد التحقيق والاطلاع على الوثائق والأوراق ونحوه، ويجب أن يكون على أقصى درجات الحرص والاستيثاق، واستجلاء الواقعة المعروضة محلاًّ للحكم الشرعي، وساق للتدليل على ذلك قصة ماعزَ الأسلمي. 

وشدد الكاتب على خطورة القول بأن من غابت عنه الأوامر وجهل الشرائع فإنه يكون فاسد العقيدة كافرًا ليس بمسلم، وبين أن مآل هذا القول أنه لم يكن مسلم على وجه الأرض في وقت من الأوقات سوى النبي؛ لأنه ما من أحد عدا المعصوم إلا وغاب عنه شيء من أحكام الشريعة وبعض أوامر الله تعالى.

وبيَّن أنه فيما عدا الإقرار المجمل بالشهادتين التي أجمع المسلمون على كفر من جهل بهما لو جهله المرء كله فهو معذور بجهله غير كافر ولا فاسق ولا عاص، فقد أجمع المسلمون على أن من كان في أقصى الأرض ولم يبلغه سوى القول برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فآمن به جملة وعلى الغيب، صدَّق ذلك بقلبه ونطق به بلسانه، ثم مات لساعته مات على الإسلام والإيمان بالإجماع، ولا يضره جهل ما وراء ذلك من تفاصيل العقائد والأحكام والشرائع. ونفس هذا القول ينطبق على الخطأ، فإنه ما من أحد إلا ويَرِد عليه الخطأ في حكم أو أكثر من أحكام الشريعة، فلو كان كل من أخطأ كفرَ ما بقي مسلم من هذه الأمة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم.