عندما تقرأ عنه ترى فيه التناقض، وعندما تستمع إليه تشعر فيه الاستقلال والتميز، يعرف طريقه منذ زمن بعيد، محام وقضيته الأولى الإسلام، يجيد المرافعة، ويمسك بالحجة، ينهمر الكلام منه سلسا مقنعا، ملابسه التراثية تُخبئ خلفها رؤى عصرية شديدة الانفتاح، لكنها شديدة التمسك بالإسلام.

 نصف قرن لم يغادر فيها العمل للإسلام، استطاع خلالها أن يضع مع رفيقه راشد الغنوشي بذرة استنبات الروح الإسلامية من جديد في ظل الإقصاء العلماني في عصر الرئيس بورقيبة، شمعتهم الأولى التي أشعلوها في حركة الاتجاه الإسلامي بضوئها الخافت بددت الظلام الكثيف للعلمانية الإقصائية في تونس بلد الزيتونة.

النشأة..

ولد عبد الفتاح مورو في (1 يونيو 1948)، في تونس، ودرس في المدرسة الصادقية، تلك المدرسة التي أسسها عام 1875 المصلح الكبير خير الدين التونسي، والتي تعتبر أول مدرسة ثانوية عصرية في تاريخ تونس، وكانت تُدرس العلوم العصرية، وتخرجت فيها أغلب النخبة التونسية.

نشا نشأة إسلامية، فصعد المنبر وهو في السادسة عشره من عمره، وكانت أولى خطبه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تحصل تونس على استقلالها في مارس 1956، ويتولى السلطة فيها الحبيب بورقيبة، الذي ينجح في الإطاحة بخصومه السياسيين، وينفرد بالسلطة، ويتجه بالبلاد نحو العلمانية، توجهات أزعجت شيوخ الزيتونة، تلك الجامعة العريقة التي تأسست عام (79هـ) على يد حسان بن النعمان، والتي تعد أول جامعة في العالم الإسلامي. 

كانت سياسات بورقيبة ضد الإسلام تتصاعد، مع توجهاته للانفراد المطلق بالسلطة، فمع العام 1960 منع استخدام التاريخ الهجري، وفي العام التالي أمم مائتي مسجد وحولها إلى مساكن، وعزل مفتي تونس وعلامتها الفاضل بن عاشور عندما عارضه في الدعوة إلى الإفطار في شهر رمضان، واحتسى الشراب على شاشة التلفاز في نهار رمضان لدفع المسلمين إلى الإفطار، وسعى لمنع التونسيين من الحج 1964 تحت دعوى أنه يهدر أموال الدولة، وحاول أن ينص الدستور التونسي عام 1970 على العلمانية في تونس لولا موقف الشيخ محمد عبد العزيز جعيط شيخ المالكية.

في هذا الجو المشحون ضد الإسلام بدأ عبد الفتاح مورو يضع أولى خطواته في الحياة وفي خدمة الإسلام الذي رأى فيه قضيته الأولى، فوهبها أكثر من نصف قرن من الجهد المتواصل بلا انقطاع.

كان العام 1965 بداياته نحو الإسلام عندما وفد إلى تونس أفراد من جماعة التبليغ والدعوة يحثون الناس على دخول المسجد، كان عمره آنذاك يقترب من السابعة عشرة، فتأثر بالتبليغ وثقتهم في الناس وحبهم لهم، وتفتيشهم عن الإيمان في القلوب، وقدرتهم على التواصل بنفس راضية مع الناس وتقبل صدودهم بصدر رحب.

كانت نهاية الستينيات بفواجعها وعلى رأسها النكسة عام 1967، ثم فشل البرنامج الاقتصادي لنظام الحبيب بورقيبة، ومظاهرات الطلبة العنيفة في فرنسا عام 1968، أوجدت أملا جديدا في نفوس الشباب بإمكان حدوث تغيير، وفي تلك الفترة يلتقي مورو مع الغنوشي الذي جاء محملا بفكر الإخوان المسلمين، وبدأت فكرة تشكيل أول كيان للحركة الإسلامية التونسية.

كان مورو يتمتع بحضور شعبي ويجيد الخطابة، ويمتلك قدرة فائقة على جذب الشباب إلى الحركة، واتفق مع الغنوشي على قاعدة أن "الإسلام هو دين حياة" وأن المجتمع يحتاج إلى الإسلام، كان مورو متأثرا بالمدرسة الزيتونية، وبمواقف العلامة الشيخ محمد صالح النيفر الذي ترك تونس واستقر في الجزائر بعد معارضته للحبيب بورقيبة، لكن الشيخ  عاد عام 1970 في بداية التشكل للحركة الإسلامية.

يتخرج مورو في كلية الحقوق عام 1970،  وكان يصر أثناء دراسته على ارتداء الزي التونسي التقليدي، ويحصل شهادة في العلوم الإسلامية، وكان ذلك العام مهما له إذ أصبح جامع سيدي يوسف، الذي يقع خلف الرئاسة التونسية، هو المركز الرئيس للحركة الإسلامية الوليدة، وكان مورو من أبرز خطبائه، وتحول المسجد الذي يقصده عشرات الأفراد، ليصبح مقصد الآلاف، خاصة من شباب الجامعة الذين أخذوا يتلمسون طريقهم للإسلام.

يُعين مورو قاضيا، ويمكث في القضاء حتى العام 1977، لكنه يتعرض للاعتقال في مارس 1972 أثناء إقامة احتفال دعوي في مدينة سوسة، ورغم أن هذا الاعتقال لم يستمر إلا ليلة واحدة، إلا أن الدولة التونسية بدأت تدرك أن هناك مشروعا يتكون على الأرض لم ينشأ في أروقتها السياسية في الحزب الدستوري الحاكم، وله حضور وسط المجتمع خاصة الشباب، وأنه مشروع مناهض لها، فأخذت تحاربه بأدواتها القمعية، عرف الكيان التنظيمي وقتها بـ"الجماعة الإسلامية".

في العام 1981 وعلى إثر إعلان الحزب الدستوري الحاكم في تونس عن مشروع التعددية السياسية، يبادر أعضاء الجماعة الإسلامية التي يتزعمها الغنوشي ومورو إلى عقد مؤتمر عام أعلنوا فيه تأسيس حركة جديدة باسم "الاتجاه الإسلامي"، وانتخب الغنوشي رئيسا لها، ومورو أمينا عاما، وتمّ الإعلان رسميا عن هذه الحركة في 6/6/1981 ، وتقدمت الحركة بطلب للحصول على اعتراف رسمي، لكنها فوجئت باعتقال قادتها وعلى رأسهم الغنوشي ومورو بعد أيام من الإعلان.

تعرض مورو للمحاكمة هو وقادة الحركة، فقد كان الحبيب بورقيبة يسعى لتصفية الإسلاميين، وتعرض (107) من الإسلاميين للمحاكمة، وحكم على مورو بالسجن عشر سنوات، كانت المحاكمة دعاية لحركة الاتجاه الإسلامي، فقد تطوع للدفاع عن مورو وإخوانه (87) من كبار المحاميين التونسيين، وساندهم المنظمات الحقوقية والنقابية خاصة الاتحاد التونسي للشغل.

وفي سجن "بنزرت" سيئ السمعة بدأت محنة الإسلاميين، حيث سجن كل شخص في زنزانة انفرادية، ثم جمعوا في غرف شديدة الضيق، لكن مورو خرج من السجن، بعد وقت قصير بعفو، وعاد إلى مهنة المحاماة، وأبدى قمة التسامح والعفو مع القاضي عبد الرحمن بوغريدة الذي تولى محاكمته، حيث التقاه وقال له "أعلم أن ما أصابني هو قضاء وقدر، ولكن كنت أتمنى ألا يمر القضاء والقدر بيدك.. وهل تعلم أنني لم أنسك في كل سجدة وكل ركعة خلال تواجدي في السجن، وكنت أدعو بأن يغفر ويسمح الله لك". وأمام هذا الموقف انهمر القاضي في البكاء.

عقب انتفاضة الخبز في تونس (يناير 1984م) بدأ الوزير الأول (رئيس الوزراء) محمد مزالي، في الانفتاح على الحركة الإسلامية، وعقد لقاءات رسمية وغير رسمية مع الغنوشي ومورو بقصر الحكومة في أكتوبر 1984، وكان ذلك إيذانا للحركة بالنشاط من جديد.

غادر مورو تونس منذ عام 1986م بعد التضييق عليه، وقضى فترة في السعودية، وفي العام 1987م حكم عليه بالأشغال الشاقة عشر سنوات بتهمة محاولة قلب نظام حكم بورقيبة، رغم أنه كان خارج البلاد، حيث عاد إلى تونس عام 1988 بطلب من الرئيس زين العابدين بن على الذي تولى السلطة بعد انقلاب أبيض على الحبيب بورقيبة في السابع من نوفمبر 1987، وفي تلك الفترة التي شهدت بداية انفتاح سياسي تأسست حركة النهضة 1988 التي تولى رئاستها الغنوشي، وكان مورو نائبا له.

وشهدت الفترة منذ تأسيس النهضة حتى العام 1992م، صدامات مع السلطة، واتهامات لها بممارسة العنف، وتعرض مورو للاعتقال أكثر من مرة، وقضى سنتين في السجن، أما النهضة فشهدت انقسامات سياسية وتنظيمية, وخرج منها بعض رموزها ومنهم مورو الذي علق عضويته في الحركة.

عاش مورو فترة شديدة، بسبب ابتعاده عن الحركة الإسلامية، ومنعه من الخطابة، وعدم السماح له بأي نشاط سياسي، ووضعه تحت الرقابة المستمرة، وسحب جواز سفره عشرين عاما، فاتجه الرجل إلى مهنة المحاماة ينصر فيها المظلومين ويدافع عن حقوقهم ضد ديكتاتورية زين العابدين بن علي.

ومع ثورة الياسمين في تونس 2011 عاد الغنوشي إلى بلاده التي غادرها قبل عشرين عاما، وعاد مورو إلى الحياة السياسية، وشارك مورو في انتخابات المجلس الوطني، بقائمة مستقلة تحت اسم "طريق السلامة" لكنه لم يفز، وبعد مؤتمر حركة النهضة عام 2012 عاد مورو إلى أطر الحركة التي وضع بذرتها قبل أربعين عاما، وتم انتخابه كعضو لمجلس شورى الحركة، واختاره الغنوشي نائبا له، وفاز مورو بمقعد في الانتخابات التشريعية 2014، وتم اختياره نائبا لرئيس المجلس.