الطيور لا تغرد في الكهوف، وهكذا الإنسانية الحقة لا تشدو في القيود، والدين القويم لا يبشر بتعاليمه وسط الأغلال، فالحرية قدر الإنسان، وقضية الأديان، منذ بدء الخلقية حتى فنائها، حرية للروح والعقل والجسد، ففي البدء كانت الحرية، التي لم تستطع الجبال أن تتحمل مسؤوليتها، وتحملها الإنسان.

بعمق فسلفي، ونص شرعي، وإدراك سياسي، وكفاح طويل، خاضت مدرسة الاعتدال معركتها من أجل الحرية، معركة متعددة الميادين، على مستوى الفكر والاعتقاد، وكذلك في عالم السياسة والاجتماع، فالمفكر الإسلامي والداعية والحركي والسياسي والواعظ، سادهم إدارك أن تحرير الحرية مدخل لنهوض الأمة، وخروجها من دائرتي الاستبداد والتخلف والتبعية، وأن الحرية هي التي تصنع الإنسان القادر على حمل أعباء الدعوة، فأخلاق الحرية أحد مطالب الإسلام الكبرى وغاياته السامية، وعندما تغيب فكرة الحرية تبرز أوثان العبودية والاستضعاف والتخاذل.

ومن الإدراك الرحيب لمفهوم الحرية في مدرسة الاعتدال، ودورها في النهوض، أن مفكريها لم يجعلوها قاصرة على الحرية السياسية، إذ تجاوزوا هذا المطلب الضيق، نحو ترسيخ فكرة الحرية في المجتمع على الأصعدة المختلفة، وكذلك محاربة الفتاوى والأفكار التي تقيدها، ومن ناحية أخرى وقفوا بالمرصاد للساعين أن تكون الحرية فوضى تنطلق فيها الغرائز والشهوات بلا سلطان من شرع أو أخلاق.

لذا كانت مدرسة الاعتدال تناضل بأفكارها على الجبهتين معا، تواجه من يفرغون الحرية من مضمونها من كثرة القيود التي يسلسلون بها حركتها، وتقف بالمرصاد للمشوهين لنصاعة الحرية بالسلوكيات الشائنة والغرائز المنفلتة.

الحرية قضية إسلامية

كان دور مدرسة الاعتدال مهما في التنبيه على أن قضية الحرية رئيسية في التصور الإسلامي، ومرتبطة بمقاصد الإسلام العليا، لذا قرن مفكرو المدرسة الحرية بالعبودية لله تعالى، فعلى قدر حريتك تكون عبوديتك لله

وتلك الفكرة والقضية مبثوثة في كتابات ومقالات الشيخ محمد الغزالي، وهو يتحدث عن عشقه للحرية بقوله: "إنني من عشاق الحرية في أوسع دائرة مستطاعة، وباسم الإسلام أود لكل إنسان على ظهر الأرض أن يستمتع بأكبر قسط من الحريات المتاحة وألا يكسف شعاع هذه الحريات ظل لحكم جائر أو متعصب أو مستبد." (1)

 وكان يرى أن"الحرية المطلقة لا تنبع إلا من العبودية الصحيحة لله وحده (2)، وفي كتابه "قذائف الحق"، كتب فصلا بعنوان "لا دين حيث لا حرية"(3) قال فيه: "إن جماهير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بذلت جهود هائلة لمنعها من الحق والجد، وتعويدها عبادة اللذة إلى جانب عبادة الفرد"، ثم يقول: "كنت أردد بإعجاب صيحات الرجال الكبار وهم يهدمون الوثنية السياسية ويلطمون قادتها ولو كانوا في أعلى المواضع" "ولا أزال أكرر ما ذكرت في بعض كتبي من أن الحريات المقررة هي الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره! وإن أنبياء الله لم يضاروا أو يهانوا إلا في غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديما لم ينشأ ويستقر إلا في مهاد الذل والاستبداد فهو إلى اليوم هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة"، "إنَّ البيئات التي تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية، هي التي تنضج فيها الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهي السناد الإنساني الممتدُّ لكلِّ رسالة جليلة وحضارة نافعة.. يستحيل أن يتكوَّن في ظل الاستبداد جيل محترم، أو معدن صلب، أو خلق مكافح " (4)

لكن الغزالي كان واعيا ألا تستغل دعوات العلماء المفكرين المسلمين لتحويل الحرية عن مسارها الصحيح، لذا حذر من أن تكون الحرية إطلاقا للشهوات، فقال: "وفي الوقت الذي أطلق فيه الإسلام حرية الفكر، قيد حرية الشهوة ووضع حولها الضوابط وراقب سير الغرائز الدنيا بحذر وأقام أمامها شتى السدود، وإذا كان العالم أصابه خير فمن حرية العقل والنظر، وإذا كان مسه ضر فمن حرية الهوى والعبث ولا يجوز الخلط بين الحريتين، إن الإسلام يحرك العقل ويرحب بكل ما يثيره ويخلق الجو الذي ينعشه، وفي الوقت نفسه يحجز أهواء النفس أن تتحرك كيف شاءت ويحذر من عواقب هذا الانطلاق والشرود، فعلى دعاة الحرية أن يفرقوا بين الأمرين وأن يميزوا بين المنهجين" (5)

وبسبب عشق الغزالي للحرية دارت معركة فكرية على صفحات "مجلة الإخوان المسلمين" بين الغزالي، والشيخ محب الدين الخطيب، تحدث عنها الشيخ القرضاوي بقوله: "والشيخ الغزالي من عشاق الحرية ودعاتها، وهي من العناصر الأساسية في برنامجه الإصلاحي، وهو عدو الاستبداد أياً كانت صورته ولا يقبله بحال، ولو تسربل باسم الدين، بل يرى أن الاستبداد باسم الدين أشد خطرا من غيره.

من أجل ذلك قسا على بعض مراحل التاريخ الإسلامي، حين رأى الشورى معطلة والخلافة تنتقل بحكم الوراثة إلى سفيه أو صبي لم يبلغ الحلم. وحين قرأ في كتاب "العواصم من القواصم" للإمام أبي بكر بن العربي أن البيعة تنعقد باثنين أو بواحد، لم يطق صبرا على هذا الكلام الذي اعتبره فارغا لا وزن له، ولا دليل عليه. وهو ما جعل العلامة محب الدين الخطيب يعقب عليه في مجلة "الإخوان المسلمين" تحت عنوان: "هل الحكم الشرعي كلام فارغ؟"، ورد عليه الشيخ الغزالي بمقال: "هل هو حكم شرعي؟" (6)

وكان العلامة التونسي "الطاهر بن عاشور" صاحب سبق كبير في اعتبار الحرية مقصدا من مقاصد الإسلام، وهو ما شكل إضافة إلى المقاصد الخمسة التي ذكرها الإمام الشاطبي، حيث رأى "الطاهر" أن المقاصد الاجتماعية ذات أهمية كبيرة وفي مقدمتها مقصد الحرية، وهو موقف تأثر به مفكرو مدرسة الاعتدال التونسيون وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي، "فمقاصد الشريعة قدمت للفكر الإسلامي أداة منهجية فعالة وسلما للقيم لتنظيم حياته الاجتماعية والسياسية على هدي الإسلام، وتكاد جل المدارس الفكرية الإسلامية المعاصرة تتفق على أن الحرية هي الأصل والأساس للاعتقاد والفكر والعمل"(7) لذا كان من أوائل كتابات الشيخ الغنوشي "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" والتي كان من المفترض أن تكون رسالته للدكتوراه، ويقول الغنوشي: "إن الحرية في الإسلام وثقافته وتجربته الحضارية، على ما شابها، قيمة أساسية أصيلة، باعتبارها أساس صحة الشهادة وشرطها" و"الحرية ليست مجرد إباحة ولا معطى وجودي، وإنما هي من ناحية واجب، وهي من ناحية أخرى كدح متواصل"(8).

وتحدث الغنوشي عن مجموعة ضمانات لتحقيق الحرية والحفاظ عليها في الرؤية الإسلامية، وفي بيانها التأسيسي أعلنت حركة النهضة في 6 يونيو 1981، قيمة وموقفها من الحرية، وجاء في البيان "رفض مبدأ الانفراد بالسلطة، لما يتضمنه من إعدام إرادة الإنسان وتعطيل طاقات الشعب ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية" (9)

وللدكتور أحمد الريسوني فقيه المقاصد المغربي مساهمات في الحرية، وكتاب مهم بعنوان "مقالات في الحرية"، ويرى أنه "إذا كان لكل شيء ضد، فللحرية أضداد متعددة؛ فالتسلط والاستبداد، والقهر والاستعباد، والاحتلال والاستغلال، والأغلال والقيود، والحواجز والحدود، وكذلك التسيب والتحلل، والفوضى والاستهتار... كلها أضداد للحرية ونقائض ونواقض لوجودها وممارستها"، فـ"الحرية حق للبشر على الجملة"، "ولقد كان في مقدمة مقاصد البعثة المحمدية تحرير العقل والفكر، ورفع ما أحاط بهما من آصار وأغلال وقيود وأوهام"  ((10))

مواجهة سد ذرائع الحرية

وقفت مدرسة الاعتدال ضد الأفكار التي تستند إلى سد الذرائع لتقييد الحرية، حيث لجأ البعض لتقييد الحرية استنادا إلى آلية سد الذرائع، فالمفكر البوسنوي علي عزت بيجوفيتش الذي يمثل مدرسة الاعتدال في البلقان، والذي احتلت قضية الحرية عنده مكانا محوريا في مشروعه الفكري، حيث اعتبرها أساس الأخلاق وشرط الإيمان وجوهر الإنسانية، وكان من تأكيده على الحرية أنه رأى أن الدكتاتورية غير أخلاقية، حتى عندما تمنع الحرام، والديمقراطية أخلاقية حتى عندما تسمح به، ومن كتبه الفريدة في هذا الجانب كاتب "هروبي إلى الحرية"، وهو مفعم بالتحريض على المطالبة بالحرية باعتبارها أساس كل فضيلة، فـ "الحرية تؤكد ذاتها بذاتها"((11)).

وكان هناك إدراك من مفكري مدرسة الاعتدال أن الحرية ليست مرادفة لنتيجة التصويت في الانتخابات، وإلا وقع الحق والشرع تحت سلطة الجماهير وعقلها الجمعي، ولكن الشرع فتح آفاق الحرية واسعة في مجالاتها المحددة لها، فمثلا لاعب الكرة أثناء المباراة يستطيع أن يصيب بالكرة أبعد رأس في المتفرجين دون أن يحرز الهدف في شباك الفريق المنافس، ورغم هذه الحرية والمهارة إلا أن الجميع لا يعترف به لاعبا محترفا، بل قد يمنع من اللعب مرة ثانية، لأنه أساء الحرية الممنوحة له في غير مقصدها، فالحرية ليست أن تفعل ما تشاء، ولكن ألا يوجد قيد يقمع إرادتك الحرة، ولذا فإن مدرسة الاعتدال حذرت من عمليات تضليل الحرية بشراء الأصوات، وشراء الناس كما يجري في التلاعب بالأصوات للانقضاض عليها، ولذلك كان من إسهامات المدرسة مواجهة الفتاوى التي تقيد الحرية، وتقمع الناس باسم الدين للتنازل عن حرياتهم، والتغاضي عن حقوقهم.

وعلى المستوى الفقهي تحدث الشيخ القرضاوي عن الحرية وضرورتها ومجالاتها بصورة مكثفة، في عشرات الموضوعات والفتاوى، وقد أجمل مطلب الحريات المعاصرة بقوله: "جاء الإسلام فمنح الناس حرية الحقوق... فالحرية منحة منحها الإسلام الناس دون طلب منهم احتراما لهم، فمنحهم حرية التفكير، وحرية العلم، وحرية الرأي والقول والنقد، وحرية الاعتقاد، والتدين، وحرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، وحرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار.. فهذه هي القاعدة العامة في الإسلام: "لا ضرر ولا ضرار"، فأي حرية ترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة. فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك"((12))