اهتمت مدرسة الاعتدال ومفكروها بالقضايا الاجتماعية، على اعتبار أن الدعوة الإسلامية لا تتحرك في فراغ، ولكن في سياق اجتماعي وسياسي واقتصادي، يعكس أزماته، ويمنح مميزاته، فقد يفتح أمامها مسارات للحركة، وقد يغلق في وجهها أبوابا للنهوض، غير أن الأهم أنه يطرح مشكلاته وإشكالاته على الفكر والحركة الإسلامية وينتظر منها حلولا ناجحة، وأفكارا ترتقي بالمجتمع.
ومن هنا يجب النظر إلى آراء مدرسة الاعتدال وموقفها من الاشتراكية(1) في سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي ظهرت فيه، إذ لا يمكن قراءة الفكرة بعيدا عن السياق الذي أنتجها، والحاجات التي أوجدتها، والمشكلات التي استهدفت علاجها.
والحقيقة أن المصلحين المسلمين كانوا الأسبق بالحديث عن الاشتراكية قبل الاتجاهات العلمانية والتغريبية، فحاولوا إيجاد أواصر من العلاقة بينها وبين الإسلام، فالاشتراكية في بداية ظهروها في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت تتمتع بجاذبية كبيرة نظرا لما تطرحه من علاج لمشكلات الأكثرية من طبقات المجتمع المهضومة الحقوق، إذ كانت تتبنى آلام الفقراء والبسطاء والكادحين، وتصوغها في إطار سياسي وحركة فاعلة على الأرض لمقاومة الظلم ومجابهة الاستغلال، كذلك فإن الاشتراكية كانت نقيضا للتجربة الرأسمالية الغربية التي أنتجت الظاهرة الاستعمارية، التي عانى منها المسلمون على وجه الخصوص، وعلى هذا اكتسبت الاشتراكية –في البداية- قبولا لدى المصلحين المسلمين، مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني، الذي كتب أن الصحابة والخلفاء أول من عمل بالاشتراكية، وأن الاشتراكية كانت تميز المجتمع البدوي العربي الذي ظهر فيه الإسلام، رغم أن الأفغاني عاد فأكد أن مبعث الاشتراكية في الغرب هو الرغبة في الانتقام والحسد.
غير أن الفترة التي تحدث فيها الأفغاني، لم تكن الاشتراكية أفصحت عن نفسها بجلاء، إذ كان ينظر المصلحون إليها على أنها مرادف للعدل الاجتماعي، لكن عندما أخذت تحدد ملامحها بأن تصبح ملكية أدوات الإنتاج في المجتمع ملكية عامة، واتخذت موقفا مناهضا للملكية الفردية، ثم اقترنت بالاستبداد والظلم السياسي في ظل الدولة الوطنية بعد الاستقلال، فتحالف كثير من الاشتراكيين مع الاستبداد، لهذا ابتعد المصلحون تدريجيا عنها، وبلوروا رؤيتهم للإصلاح الاجتماعي انطلاقا من الإسلام.
ويشير الباحث جمال باروت أن مدرسة الاعتدال في تعاملها مع الاشتراكية، قامت بــ "استيعاب تدريجي حذر" لفكرة الاشتراكية، والتوفيق بينها وبين مفهوم العدالة الاجتماعية في صياغة الاشتراكية الإسلامية في سياق المفهوم الجامع والشامل للإسلام. ومن هنا لم يفتقد الجدال الإخواني تماما محاولات تطبيع مصطلح الاشتراكية تحت اسم الاشتراكية الإسلامية في المجال التداولي، لكنه كان شديد الحذر في ذلك، وفضل استخدام مفهوم العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي على استخدام مفهوم الاشتراكية، اتقاء لما يثيره من شبهات تختلط بالشيوعية"(2).
والحقيقة أن المشكلة الاجتماعية في مصر والبلدان العربية، جاءت للتفاوت الاقتصادي الكبير بين الطبقات، فأقل من 1% من السكان يملكون أغلب الثروة، وأوجد هذا الاختلال بؤسا وشقاء كبيرا، لذا كانت المشكلة الاجتماعية والاقتصادية تطرح نفسها على جميع التيارات والأحزاب، ومنها الحركة الإسلامية، فالاستعمار جاء على أوضاع مختلة، فزادها اضطرابا وانقساما محاولا خلق وشائج من الصلات بينه وبين الفئات الإقطاعية والمالية لتكون تلك الطبقات الناقل لقيمه والمحافظ على استمراره رعاية لمصالحها الاقتصادية، لأن التغيرات السياسية تفرض حدوث تغيرات اقتصادية جذرية.
وليس من المبالغة القول أن الشيخ "حسن البنا" لنشأة دعوته في الإسماعيلية ،كان يرى التفاوت الصارخ بين الطبقات وانعكاس ذلك على المجتمع، ورغم حديث "البنا" عن المشكلة الاجتماعية وضرورة إصلاح النظام الاقتصادي، إلا أنه كان حريصا أن تظل الاشتراكية مفهوما ومصطلحا بعيدا عن خطاباته وشعاراته، إذ إن استقلال المفهوم كان جزءا من منهجه الدعي إلى الاستقلال الشامل، ففي العام 1936 طرح برنامجا شاملا للإصلاح الاقتصادي بعنوان "المطالب الخمسون" أُلحق برسالة "نحو النور" ووجها للملك فاروق ولرئيس الوزراء النحاس باشا، خصص منها أربعين نقطة للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، ثم صاغ عشرة قواعد في عام 1947 يقوم عليها النظام الاقتصادي والاجتماعي الإسلامي، ورغم ذلك يمكن رصد المصطلح في بيان واحد صدر عام 1946 ورد فى الاجتماع السنوي العاشر لجمعية الإخوان العمومية عام 1946، تحدث عن الاشتراكية الإسلامية.
كانت الكتابات الأولى لمدرسة الاعتدال في المسألة الاجتماعية تحاول أن تتلمس طريقها بعيدا عن الاشتراكية، فيما كتبه الشيخ محمد الغزالي، أو سيد قطب في كتاب "العدالة الاجتماعية" في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وإذا كانت الاشتراكية وردت في كتاب "الإسلام والمناهج الاشتراكية" للشيخ الغزالي الذي أصدره عام 1947، حيث قال الغزالي: والإسلام الذي ندعو إليه هو "إسلام محمد بن عبد الله"، أعظم مقرر للاشتراكية الاجتماعية والديمقراطية السياسية في الأرض"(3)، أو قوله في نهاية الكتاب "إن الإسلام أخوة في الدين واشتراكية في الدنيا"(4) إلا أن كتبه التالية ابتعدت عن مصطلح الاشتراكية، بل إن كتاباته كالت لها الاتهامات واللكمات في ظل محاولات السلطة في الستينيات فرض الاشتراكية قسرا على المجتمع، ووضعها في مواجهة مع الإسلام.
ونشير هنا إلى أنه في سوريا ظهرت كتابات تدعو إلى الاشتراكية فقد أصدر "محمد مهدي الإستنبولي" في دمشق عام 1946 كتاب "الاشتراكية الإسلامية" واعتبر فيه الاشتراكية مذهبا وسطا، أما الدكتور مصطفى السباعي -أول مراقب للإخوان في سوريا- فقد كان اهتمامه بالاشتراكية سابقا على إصداره لكتابه "اشتراكية الإسلام" الذي صدر عام 1959، ففي العام 1949، شكل "الجبهة الاشتراكية الإسلامية" في المجلس النيابي، وخاض صراعا من أجل إصلاح الخلل في الثروات في سوريا، والحيازات الضخمة لكبار الملاك، وكان أداؤه في الجمعية التشريعية منحازا للفقراء والعمال، ويرى البعض أن السباعي عندما رأى تزايد المشكلة الاجتماعية، وانجذاب الكثير من الشباب إلى الشيوعية أراد أن يرغب هؤلاء في الإسلام من خلال الحديث عن منهجه في الإصلاح الاجتماعي، يقول الشيخ "علي الطنطاوي" إن "السباعي ما أراد بالقول باشتراكية الإسلام إلا أن يقرب الاشتراكيين إلى الإسلام، والشيخ السباعي أمتن دينا، وأكثر علما، من أن يكتب أو يقول ما يخالف الإسلام، ولكن الاشتراكيين كانوا أوسع حيلة، وأقوى أداة، وأكثر وسيلة، فاتخذوا كتابه ذريعة لتقريب المسلمين من الاشتراكية، وما أراد إلا أن يقرب الاشتراكيون إلى لإسلام"(5).
وقد شاع وقت صدور كتاب السباعي أنه جاء للتغطية على قانون الإصلاح الزراعي الذي اتخذته حكومة الوحدة بقيادة عبد الناصر، كمحاولة لتخفيف الضغط عن جماعة الإخوان في مصر، لكن الغوص في الكتاب يكشف أن الموضوع متجاوز هذا الاتهام، ويرى "باروت" أن السباعي "كان مخلصا في الاعتقاد أن الإسلام اشتراكي بطبيعيته، وأن الاشتراكية منطق بنيوي داخلي في الإسلام.. وفي ذلك تجاوز حدود العودة إلى ما هو قائم في الأصل نحو إعادة صوغ ما فهم"(6) فالسباعي هو أول من حاول صوغ مفهوم العدالة الاجتماعية في ضوء مفهوم الاشتراكية الحديثة، متجاوزا حالة التوفيق الحذر، إلى إعادة البناء والصياغة، ومن ثم فأهمية ما كتبه السباعي تعود لاجتهاده في تأسيس العدالة الاجتماعية على مفهوم الاشتراكية الحديثة، وتطبيق البرنامج الاشتراكي برؤية إسلامية، فكان يؤكد أن الاشتراكية ليست موضة ستنتهي، ولكنها بداية بل عودة إلى أصل، وهذا الأصل هو الإنسانية، ومضى السباعي بعيدا في موضوع التأميم ورأى أنه واجب.
والحقيقة أن موقف السباعي في الاشتراكية قوبل باعتراضات من مدرسة الاعتدال، فقد نشر في عام 1962 محمد حمدي الجويحاتي إمام مسجد الروضة بدمشق كتابا في الرد على السباعي، وكان يرى أن الاشتراكية مناقضة للإسلام، ثم زاد النقد عقب الانفصال المصري السوري، كما أصدر الشيخ عبد العزيز البدري -من علماء الحركة الإسلامية بالعراق- كتابا عام 1962 بعنوان "حكم الإسلام في الاشتراكية" كانت المقولة الأساسية له أنه لا اشتراكية في الإسلام، وأن محاولة إلصاق هذا المصطلح بالشريعة مخالفة للشرع، وأصدر الشيخ محمد الحامد كتابا بعنوان "نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام للدكتور السباعي" نقد فيه نقدا عنيفا أفكار السباعي عن الاشتراكية وعلاقتها بالإسلام، كما أن الدكتور السباعي نفسه أبدى تأسفه لاستخدام مصطلح الاشتراكية الإسلامية(7).
وقد كتب الشيخ "البهي الخولي" -وهو من قيادات الإخوان- كتابا عام 1960 بعنوان "الاشتراكية في المجتمع الإسلامي"، اعتبر فيه أن الاشتراكية هي الاعتدال في كل شيء، ورآها لا تقوم على الصراع، وأنها مرنة متدينة، تقرب الشقة بين الطبقات، وتقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع، إلا أن بعضا من فقهاء مدرسة الاعتدال رفضوا هذا التوجه، فقد أصدر الشيخ القطري عبد الله بن زيد آل محمود كتابا في نقد الاشتراكية بعنوان "الاشتراكية الماركسية ومقاصدها السيئة"، وكتب الشيخ مناع القطان، كتابا بعنوان "موقف الإسلام من الاشتراكية أو نظرية التملك في الإسلام".
ورغم ذلك كان للفقيه والمفكر الإسلامي "عبد الحليم أبو شقة"، رأي مهم فيما يتعلق باستفادة الفكر الإسلامي من الأفكار المطروحة، حتى وإن كان فيها انحراف، فقد كان الرجل ينتهج سياسة "أن الجسد الصحيح يستطيع استخلاص الفائدة من أي طعام"، لذا طرح في كتاب "نقد العقل المسلم" سؤلا مهما هو: هل يتعلم المسلمون من الماركسية؟"، وأجاب عليه في ثماني نقاط عما يجب أن يستفيده العقل المسلم من الماركسية، منها: "- مزيد من إدارك المادية حتى نرتبط أكثر بالواقع، وذلك بدراسته جيدا، وبأن نتفاعل معه جيدا.
- الاهتمام بالشعب العامل (بالمسحوقين) أو بالتعبير الشرعي المساكين شيء من ديننا، ولم نكن في حاجة إلى الماركسيين وغيرهم ليذكرونا بذلك، لكننا صمتنا حتى ذكرونا بما هو أصيل في ديننا، ولو أننا انطلقنا من إدراك هدي الله حق الإدراك لعلمنا أننا أولى بالعاملين والمساكين من الشيوعيين.
- تغيير العالم: بدلا من التقوقع الدائم الذي لا ينتهي لإصلاح النفس الفردية وحدها"(8).