بين الحكومة والشعب
الشكوى من رجال الحكم طبيعة في الأمم، وقلَّ أن تجد في التاريخ حاكماً استطاع أن يرضي الناس جميعاً، ولعل منشأ ذلك: أن أهواء الناس متعددة، ومنافعهم متضاربة، وكل منهم يريد تحقيق مصلحته، وليس يستطيع الحاكم ذلك ما دام في الدولة قانون يحكم، وشرع يسود، ومن هنا يقول شاعرنا:
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام! هذا إن عدل
أما إذالم يعدل: أما إذا حاد عن طريق الحق، واتبع أهواء النفس، واستغل منصبه لتقريب الأنصار ولو كانوا بلهاء، وإبعاد الخصوم ولو كانوا أكفاء، فكل الناس أعداء له، وأول أعدائه في الحقيقة أولئك الذين يدوس حرمة القانون ليقربهم إليه، وليحقق لهم أغراضهم ومصالحهم. وبذلك اعتاد الشعب خلال ربع قرن كامل أن ينفر من كل حكومة قائمة، ويرى في كل قانون تسنه قيداً جديداً ترهق به ماليته وحريته وكرامته. وذلك يوم كان المستعمر الراحل هو الذي يعين الحكام، وهو الذي يؤلف الوزارات، وهو الذي يأتي إلى الحكم برجال لا تعترف الأمة لهم بفضل ولا بوطنية ولا بإخلاص، وأصبح التذمر لنا عادة دائمة، والشكوى من رجال الحكم نغمة مستحبة حتى بعد قيام العهد الوطني، ولم يكتب لنا في التاريخ أن تمتد الأيدي بعضها إلى بعض فتنطلق متعاونة في البناء، متفاهمة على الخير، واستمرت الجفوة حتى وصل الأمر بنوابنا أن يتراشقوا بالتهم في ندوتهم، وأن ينقلب سلاحهم إلى تهديد بالمسدسات، وهجوم بالكراسي، وغير ذلك مما أخذ الناس يقرأونه في صحفهم عن مجلسهم النيابي في آخر حياته، وإنها لعمر الله مأساة تتفطر لها القلوب!.
من المسؤول عن ذلك؟ أهي الحكومة؟ نعم! ونقولها بكل صراحة. أم هو الشعب؟ نعم! ونقولها بكل وضوح. فالحكومة مسؤولة لأنها لم تحسن تصريف الأمور في كثير من الأحيان، ولم تستطع أن تكون جريئة في الإصلاح، ولا واضحة في الإدارة، ولا متخلية عن أهواء بعض وزرائها الذين أصبحت خطتهم مثلاً سائراً يتحدث به الناس في مجالسهم. فهل نعجب بعد ذلك إذا ارتفعت الشكوى بحق وبغير حق من فساد الأوضاع، واختلال النظام، وتشجيع الخونة والعجزة، وإقصاء الوطنيين والأكفاء، والاستهانة بمالية الأمة ومقدرات الوطن؟ وقد تكون الحكومة معذورة في بعض، وقد تكون مجتهدة فأخطأت الطريق، وقد تكون لها سياستها التي دقت عن أفكار الشعب! ولكن الأمة لا تعذرها في ذلك كله ما دام تصرف بعض المسؤولين فيها تصرفاً كيفيًّا ينبو عن قواعد الدستور، ومبادئ العدالة، ومتعارف الناس في أخلاقهم وعقائدهم.
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل
وأما الشعب: فهو المسؤول أيضاً؛ لأنه لم يحسن اختيار نوابه والمتكلمين باسمه في المجلس النيابي، وحسبك أن تلقي نظرة على مجموعة النواب الحاليين لتحكم بكل تجرد وإخلاص: هل هؤلاء في مجموعهم يمثلون إرادة الأمة ووثبتها ونهضتها ومطامحها ورقيها؟ إن في المجلس النيابي عدداً من الأكفاء، وفيه من المخلصين من لا ننكر إخلاصهم، ولكن فيه عدا عن ذلك من لا كفاءة لهم إلا جاههم ونفوذهم، ومن لا تؤثر عنه كلمة واحدة في المجلس من أولى جلساته إلى آخرها. ومن إذا تكلم لا يحسن الكلام، ولا يضبط أعصابه، ولا يعرف كيف يسلك سبيل النقاش وطرائق الهجوم والدفاع! هذه حقيقة واقعة قد يسكت عنها بعض حملَة الأقلام؛ إما مجاملة، وإما خوفاً، وإما طمعاً! والذي أدى إلى أن يكون مجلسنا النيابي بهذا الشكل هو الشعب الذي رضي أن يكون فريق نوابه على ذلك الطراز! وقد يكون الشعب معذوراً ما دام النظام الانتخابي على قواعده الحاضرة التي وضعها المستعمرون! ولكنه غير معذور في حالتين: في سكوته اليوم على هذا النظام الفاسد، وفي سكوته عدا عن عمليات اللف والدوران التي يقوم بها المرشحون للنيابة مع فريق من المنتخبين الثانويين إذا بقي هذا النظام قائماً! إن الشعب هو المسؤول؛ لأنه هو الذي يجب أن يختار نوابه، فإذا شكا اليوم وتألم فليظهر غداً إرادته الواضحة في إقصاء من يتألم منهم وإبقاء من رضي عنهم، أما الشكوى في الأندية والأسواق والشوارع، ثم السكوت وقت الانتخابات، أو المجاملة والرضوخ لإرادة المتنفذين؛ فتلك علامة الموت، وتلك خطة الشعب الذي ابتلاه الله بالثرثرة وطول اللسان، والتقصير في الأعمال الصالحة في كل ميدان.
وما دامت قواعد الانتخاب على شكلها الحاضر، وطرق النيابة على ما اعتاد الناس رؤيته في كل دورة انتخابية، فسيمثل الأمة من لا تريده الأمة، وسيحكم فيها من لاي يحسن الحكم، وستزداد الأوضاع سوءاً، والبلاد اضطراباً، وستكون الفرصة مواتية لبعض المغرضين أن يستغلوا نقمة الأمة من أشخاص فيحولوها إلى أن تكون نقمة من حكم، وغضباً على عهد، وحنيناً إلى أيام سوداء رأت فيها البلاد ألواناً من النكال والمآسي والنكبات.
الطريقة الوحيدة لاستقامة الأمور: أن يترك الشعب حرًّا في إختيار نوابه مباشرة، وسيقول بعض الناس: أليس الشعب الآن حرًّا في اختيار نوابه مباشرة، ونحن نحيلهم إلى الخزائن التي تفتح، والولائم التي تقام، والوعود التي تعطى، والمؤامرات التي تحاك! ليروا إن كان هنالك شعب ينتخب أم أفراد يتآمرون!.