محمد المبارك من الشخصيات العالِمة التي لم تلق حظًا من العناية والاهتمام من الباحثين أو غيرهم من وسائط التشكيل الثقافي في الأمة, رغم أن أفكاره وكتاباته – غير المشهورة- تزخر بأفكار وخطط ومشروعات فكرية وعلمية وحضارية للأمة, لو أتيح لها التطبيق والتنفيذ لخطت الأمة خطوات واسعة نحو النهضة والعمران. رائدنا اليوم هو محمد عبدالقادر المبارك.
الميلاد والنشأة
ولد في دمشق في عام 1912م في أسرة معروفة بالعلم والصلاح، ودَرَس العلوم العربية والإسلامية بما فيها الجبر والهندسة والفلك على شيخ بلاد الشام المحدث الكبير بدر الدين الحسني وعلى والده العالم اللغوي المعروف عبد القادر المبارك.
التحق بمدرسة الآداب العليا بدمشق، وتخرَّج فيها، ثم درس الحقوق في الجامعة السورية، ثم سافر إلى باريس، ودرس الأدب العربي والأدب الفرنسي وعلم الاجتماع في جامعة السوربون، ثم عاد إلى سوريا وعمل مدرِّسًا للأدب العربي في المدارس الثانوية، ثم مفتشًا عامًا للغة والدين، ثم عضوًا في اللجنة الفنية والتربوية لوضع المناهج التربوية والتعليمية، ثم محاضرًا في كلية الأدب في جامعة دمشق عام 1947م، كما شارك في إنشاء كلية الشريعة في جامعة دمشق عام 1954م مع الأستاذ مصطفى السباعي – رحمهما الله - وشارك في وضع المناهج والمواد الدراسية لها، وعمل أستاذًا فيها لمادة فقه اللغة ونظام العقيدة وعلم الاجتماع، وتولى عمادة الكلية في الفترة من 1964 – 1966م، ثم سافر بعدها إلى الخرطوم، وعمل أستاذًا بجامعة أم درمان الإسلامية في السودان من عام 1966 – 1969م، ثم انتقل إلى مكة المكرمة عام 1969م، وعمل أستاذًا في كلية الشريعة فيها، ورئيسًا لقسم التربية والدراسات الإسلامية، ثم مستشارًا في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، إلى أن توفاه الله في المدينة المنورة عام (1981م) حيث أكرمه الله أن يُدْفن في البقيع بجوار الصحابة والشهداء والصالحين.
نشاطه الدعوي
خلال حياته المليئة بالعمل شارك في عشرات المؤتمرات الإسلامية في مختلف المدن الإسلامية وغير الإسلامية، حيث شارك في الحضور وإلقاء المحاضرات والمشاركة في المناقشات مع العلماء المسلمين والمستشرقين، كما شارك في وضع المناهج والخطط التعليمية لجامعات إسلامية، منها جامعة الأزهر الشريف، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية بدمشق، كما كان نائبًا عن مدينة دمشق في مجلس النواب السوري لعدة دورات في الأربعينيات والخمسينيات الميلادية، وتولَّى الوزارة عدة مرَّات.
عمل المبارك منذ ريعان الشباب في حقل الدعوة الإسلامية، وحينما ذهب سنة 1935 إلى باريس كان مهتمًا بالدعوة إلى الإسلام، وبالتيارات المعادية للإسلام، وخاصة الشيوعية، وكان يحضر مؤتمرات الشيوعيين، ويندسُّ فيهم على أنه واحد منهم، وقد يظهر الموافقة على مقرراتهم حتى يعرف ما لديهم، فالإنسان لا يستطيع أن يحارب عدوًا حتى يعرف ماذا عند عدوه، اشترك بنشاطه في رابطة علماء دمشق، واشترك في تأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية، وكان له دور ملحوظ في العمل الإسلامي وفي الدعوة الإسلامية في سوريا.
الخصائص الفكرية
اتسم تفكير المبارك وفكره الإسلامي النظري والحركي بعدة خصائص أهمها:
- المفكر الداعية أو الداعية، الحقيقة أننا قد نجد كثيرًا من الناس وعاظًا أو دعاة، لكننا قلما نجد الداعية العالم المتمكن، وقد تجد الداعية العالم، ولكنك قلما تجد العالم المفكر الذي يفكر للإسلام ويفكر بالإسلام، أي يفكر بمنطق الإسلام، وينطلق من أصوله ونصوصه وروحه العامة، لكننا نحمد الله تعالى أن كان الأستاذ المبارك أحد الذين يفكرون بالإسلام ويفكرون للإسلام، وهكذا عاش لهذا الدين وعاش بهذا الدين.
- النظرة الشمولية للإسلام، وذلك لمعالجة آفة التجزؤ في فهم الإسلام والتعامل مع القضايا بهذا المنهج, إن عيب الكثيرين أنهم يأخذون الإسلام مجزأ، يأخذون جانبًا وينسون جانبًا أو جوانب، ولكن الذين وفقهم الله هم الذين ينظرون إلى الإسلام من جميع جوانبه، لا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، إنما يؤمنون بالكتاب كله وبالإسلام كله، فالإسلام وحدة لا تتجزأ، الإسلام كل شامل.
وهذه هي نظرة الأستاذ المبارك، وعلى هذا الأساس كان يتبنى، في كل ما شارك فيه من مناهج التربية في الجامعات الإسلامية والعربية، فكرة تدريس مادة اقترح أن تسمى (نظام الإسلام)، مادة يدرس فيها الإسلام كله كوحدة لا تتجزأ؛ اقترح ذلك في جامعة الأزهر، وفي جامعة أم درمان، وفي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وفي جامعة الملك عبد العزيز، واقترح ذلك في كل جامعة شارك فيها.. مادة نظام الإسلام: أن ينُظر إلى الإسلام كلّا شاملاً، ويُدرس على هذا الأساس.
3. الاعتدال والتوازن: وهذه الخاصية صنو خاصية الشمولية في فهم الإسلام, وهذه الخاصية تعني أنه لا يقف متطرفًا، ولا يقف على طرف ضد طرف آخر، إنه يحاول أن يقف الموقف الذي وصف الله به أمة الإسلام (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) [البقرة : 143]. .. إنه في المعارك التي يقف الناس فيها عادة كل منهم في طرف يحارب الآخر؛ كمعارك الصوفية والسلفية، أو المذهبية واللامذهبية أو غير ذلك، نجده يقف الموقف المعتدل الذي ينبع من روح الإسلام، ومن فلسفة الإسلام، فلسفة الوسطية في الإسلام، وفلسفة التوازن في الإسلام.
ومن أقوال محمد المبارك: "إن منهجي هو تسليف الصوفيين وتصويف السلفيين"، أي: إن هناك بعض السلفيين فيهم نوع من الجفاف الروحي، وهناك كثير من الصوفية أيضًا فيهم من التخريف والبعد عن العقائد الصحيحة، فلابد من قدر مشترك، لابد من أن تطعم الصوفية بالسلفية المعتدلة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، ولابد أن تطعم السلفية بقدر من الروحانية المشرقة المعتدلة. وهكذا كان منهج شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فهؤلاء لم يكونوا مجرد أناس مجادلين في العقائد، بل كانوا ربانيين، أهل روحانية وإشراق".
4. الحرص الشديد على أسْلَمة العلوم والمعارف في مختلف جوانب الحياة، لا بمعنى إِلْباس الحقائق العلمية، والنظريات المعرفيَّة القائمة لبوسَ الإسلام، كما يفعل بعض الكاتبين اليوم، وإنما يهتم الأستاذ – رحمه الله – بالبحث عن نظرة الإسلام إلى هذه العلوم والمعارف، واستخلاص المنهج الربَّاني في التعامل معها، والعمل على إبراز خصائص هذا المنهج ومزاياه، منطلقًا في ذلك من مبدأ (ما فرطنا في الكتب من شيء) [الأنعام : 38] ومن الحقيقة المطلقة المقررة: (إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم) [الإسراء : 9]، فجاءت كتاباته مجسِّدة لذلك المبدأ، وكاشفة عن بعض أوجه تلك الحقيقة.
5. الكتابة بلسان العصر ولغته التي يعجز عنها كثير من الكاتبين المعاصرين، فتأتي كتاباته كتابة متمكن في الفكر الإسلامي، متفهّم مطّلع على الفكر الغربي، متابع لميادينه واهتماماته.. ولا عجب، فقد ساهم تكوينه العلمي، بشقّيه الإسلامي والغربي، ومتابعاته الثقافية المتنوعة، وحركته النشيطة الدائبة، في تحقيق تلك الخصِّيصة.
الخصائص الشخصية
من الخصائص التي رصدها كثير من المقربين لمحمد المبارك: غَيْرتة على الإسلام والمسلمين، تلك الغَيْرة الصادقة الناطقة، التي تعتمد على العقل والعاطفة معًا، فلم تكن غيرته عاطفية سطحية تنتهي بالحماسة والتنفيس عن النفس بعبارات وكلمات، كما لم تكن عَقْلية مجرَّدة تنتهي ببحث علمي، وخَتْمه بمقررات وتوصيات، كما نرى عند الكثيرين من الغيورين على واقع الأمة اليوم، وإنما يلمس القارئ له، والمتابع لفكره وكتابته؛ التألُّق الفكري الممزوج بالتأجج العاطفي، فتراه يستخدم في كتاباته كلاً من الأسلوب الأدبي المُمْتع، والأسلوب العلمي المُقْنع، موظِّفًا خصائصهما في عرض فكره وموضوعه.
المبارك وحركة التجديد
أسهم محمد المبارك إسهامًا بارزًا في حركة التجديد الإسلامي, وكتب مذكرة لتقنين التشريع الإسلامي, وطرح مشروعًا لتطوير الدراسات الإسلامية في الجامعات العربية, كما طرح مشروعًا لصياغة وأسلمة علم الاجتماع, واهتم كذلك بتنقية الثقافة الإسلامية من شوائب التغريب وآفات الجمود, ومن أهم مؤلفاته التي أسهم فيها في حركة التجديد في الأمة ما يلي:
1. فن القصص في كتاب البخلاء للجاحظ.
2. من منهل الأدب الخالد.
3. عبقرية اللغة العربية.
4. فقه اللغة وخصائص العربية.
5. الأمة العربية في معركة تحقيق الذات.
5. المجتمع الإسلامي المعاصر.
6. الأمة والعوامل المكوِّنة لها.
7.جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي.
8. نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع.
9. نحو إنسانية سعيدة.
10. العقيدة في القرآن الكريم.
11. نظام الإسلام.. العقيدة والعبادة.
12.نظام الإسلام.. الحكم والدولة.
13. نظام الإسلام.. الاقتصاد.
14. نظام الإسلام العقائدي في العصر الحديث.
15. ذاتية الإسلام أمام المذاهب والعقائد.
16. الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية.
17. نظرة الإسلام العامة إلى الوجود وأثرها في الحضارة.
18. الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية.
19. القرآن عربي الخطاب.
20. نحو وعي إسلامي جديد.
21. المشكلة الثقافية في العالم الإسلامي.
22. مذكرات في الثقافة الإسلامية.
23. الإسلام والفكر العلمي.
24. بين الثقافتين: الغربية والإسلامية.