ولد محمد عمارة مصطفى عمارة يوم 27 رجب 1350هـ - 8 ديسمبر 1931م، بمصر في قرية صَروة التابعة لمركز قلين (محافظة كفر الشيخ). نشأ عمارة في أسرة قروية بسيطة، كان والده يعمل في الزراعة، وكان له من الأبناء ثلاثة ذكور، ونذر إن رزقه الله ولدا رابعا، لسوف يسميه محمد، ويهبه للعلم الشرعي، فتقبل الله منه ورزقه، ووفى الرجل بنذره، واهتم بابنه على أحسن ما يمكن، ووفر له معلما يعلمه العربية والقرآن منذ صغره، وألحقه بكُتاب القرية أيضا، ليقوي بالقرآن علاقته.
مسيرته العلمية
في العام 1945 التحق عمارة بالمعهد الأزهري الابتدائي في مدينة دسوق، وكان عمره آنذاك أربعة عشر عاما (14عاما)، بعدما استوفى الشروط واجتاز الاختبارات، المتمثلة في حفظ وتجويد القرآن كاملا، والدراية بقواعد الإملاء، والخط الحسن، وبعد أربعة أعوام حصل على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بالمعهد الأحمدي بطنطا، وحصل منه على الشهادة الثانوية بتفوق، والتي أهلته للدراسة في كلية دار العلوم، وحصل منها على شهادة الليسانس في العام 1965. وقد تأخر في دراسته بسبب اعتقاله لمدة خمس سنوات، وهو طالب في الفرقة الرابعة في دار العلوم، وفي العام 1970 حصل على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية، ثم نال شهادة الدكتوراه في العام 1975.
تكوينه وميراثه العلمي
مجموعة من العوامل أثرت في تكوينه العلمي، كان أولها والده رحمة الله عليه، من خلال اهتمامه به، وتوفير كل سبل التعلم له، وثانيها: ثقافته الإسلامية الأزهرية الغزيرة، التي حصّلها خلال مراحل تعليمه المختلفة، وثالثها: اطلاعه الواسع على المكتبة العربية الأدبية والفكرية، بعيدا عن الالتزام الدراسي، بعد التحاقه بمعهد دسوق الأزهري، وتأثره بمعلمه الذي كان يلفت انتباههم إلى القراءة خارج الكتب الدراسية، وشجعه ذلك على شراء أول كتاب في حياته، كتاب "النظرات" للمنفلوطي ليكون بمثابة نواة مكتبة تحوي أربعة آلاف كتاب، ضمت أمهات العلوم الإسلامية، كان قد ابتاعها من الشيخ عبد التواب الشناوي بالتقسيط، وأخيرا: عملية المزج الفكري التي حدثت له، خلال تعرفه وتنقله بين التيارات والاتجاهات الفكرية المختلفة. لقد تعود القراءة منذ صغره، حتى كان يقرأ في اليوم ثماني عشرة ساعة، واعتلى المنابر صغيرا، وكتب أول مقالة له في صحيفة "مصر الفتاة" تدعم فلسطين والمقاومة، ومن يومها لم يغمد هذا الفارس سيفه المتمثل في قلمه عن الكتابة في نصرة المقاومة الفلسطينية، وقضية الأمة الأولى- القدس.
أسهم عمارة في إثراء المكتبة الفكرية العربية والإسلامية بما يقارب 240 كتابا، وعشرات المحاضرات المرئية والمسموعة، وإصدار الدوريات المتخصصة، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات الفكرية، وتنوعت إسهاماته بين التأليف بما يناسب الواقع، والتحقيق والتعليق على القديم، بما يوضح مبهمه، ويبرز محاسنه. صدر أول كتاب له في العام 1957 تحت عنوان القومية العربية، رد فيه على مزاعم الحركة اليسارية، بعدم وجود أمة عربية، وكان هذا أول كتاب يصدر بمصر عن القومية بعد الوحدة بين مصر وسوريا. بعد اعتقاله في العام 1959م استغل خلوة السجن في القراءة والكتابة، فألف أربعة كتب، أظهرت تأثره الكلي بالفكر الإسلامي، نشرها بعدما خرج من السجن عام 1964، ومع ظهور الصحوة الإسلامية، وسقوط الاتحاد السوفيتي لمع نجمعه الفكري، فراح يكتب وينشر عن قضايا القومية، والعدل الاجتماعي والثورة على الظلم، والتفاعل الحضاري بين الأمم، والأقباط، والمرأة، والعلمانية، والسياسة الشرعية، ونظرته لنظام الحكم والدولة، والحاكم والشعب في الفكر الإسلامي.
ومن أهم مؤلفاته "التفسير الماركسي للإسلام" – "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" – "معالم المنهج الإسلامي" – "الإسلام والمستقبل" – "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام" – "معارك العرب ضد الغزاة" – "الغارة الجديدة على الإسلام" – "جمال الدين الأفغاني بين حقائق التاريخ وأكاذيب لويس عوض" – "الشيخ الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية" – "الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ" – "التراث والمستقبل" – "الإسلام والتعددية" – "الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية" - "الدكتور عبد الرازق السنهوري باشا: إسلامية الدولة والمدنية والقانون" – "الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين" – "الجامعة الإسلامية والفكرة القومية" – "قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية" وغيرها.
حياته العملية
كان عمارة منذ بداية حياته، ينظر إلى الوظيفة على أنها نوع من الرق، تأسر الإنسان وتكبله عن الإنتاج والإبداع، لذا كان لا يرضى من الوظائف إلا ما يصب في مصلحة مشروعه الفكري. اختير عضوا في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، وقد وجد في ذلك ضالته، حيث يمنحه القانون بحكم عضويته الولاية على الشأن الديني في مصر، فكان يراجع الكتب المتعلقة بالشأن الديني، ويقيّمها في تقارير، وربما رد على الكتب المخالفة بالحجة والبرهان، وكان مفتاح خير لكثير من الكُتاب، فقد كان يرى أن عملا ما غير مؤهل للنشر، لكنه يستشف من بين ثناياه أن عقل صاحبه ينطوي على عقلية فكرية متميزة، فلا يرفض عمله، وإنما يراجعه ويوجهه، حتى يبلغ به ما يرجوه له، كذلك قام بنفس المهمة في الهيئة العامة للكتاب، وأيضا عمل عضوا في المعهد العالي للفكر الإسلامي، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة الأزهر أربع سنوات، كان له الفضل في عودتها إلى ميدان الشباب، من خلال موضوعاتها المتميزة المرتبطة بالواقع الذي كانت تعيشه مصر، واستقال منها يونيو 2015، وقد حصل خلال مسيرة حياته على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية والدروع، تكريما له على ما قدمه للفكر الإسلامي والدعوة.
توجهه الفكري
كعادة المفكرين الكبار، عاش حياته متنقلا بين الاتجاهات الفكرية المختلفة، ففي عامه الابتدائي الثاني عام 46 شارك عمارة بدافع التلقائية كأحد أفراد الشعب المصري، في التظاهرات الرافضة لاتفاقية (صدقي – بيفن) التي عقدها إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر، وعارضها الشعب المصري. أثناء دراسته بالمعهد الأحمدي انضم إلى حزب "مصر الفتاة" الحزب المعارض حينها، والذي كان يمزج بين فكرتي الاشتراكية والإسلام، وتقوم فلسفته على أن الاشتراكية أساسها الدين، وأعظم العبادة ما كان في خدمة الشعب.
بدأ مسيرة الكلمة الناقدة للواقع السياسي والاجتماعي في مصر، بالكتابة والنشر في صحيفة مصر الفتاة، والتي أظهرت تأثره بالفكر الاشتراكي، ولربما كان ذلك نابعا من سلامة فطرته، وكرهه الشديد للظلم، والوضع الاجتماعي السيئ السائد في زمانه، وحبه للعدل والمساواة، مما كان يدفعه دائما للبحث عن الجانب الثوري في الفكري الإسلامي، فقد كان محبا ومطلعا على كتابات المصلحين الإسلاميين، وعلى رأسهم محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني. بعد حركة الضباط في العام 1952، والتي أعقبها إلغاء الأحزاب السياسية في عام 1953، التحق عمارة قرابة العشر سنوات بالاتجاه اليساري، تعرض خلالها للاعتقال خمس سنوات من العام (1959-1964) غادر خلالها الاتجاه اليساري إلى الاتجاه الإسلامي المستقل، حيث تعرف على المدارس الإسلامية عن قرب، لكنه لم ينضم إلى واحدة منها، وقد ساعده هذا في تقويمها بعين منصفة، وتقديم النصح الرشيد لها.
موقفه من الإخوان
أثنى على حركة الإخوان المسلمين ثناء حسنا، تعمق في القراءة لمفكريها وروادها، وعلى رأسهم البنا وقطب، واعتبرها الرصيد الأضخم والأوسع للصحوة الإسلامية في الشارع المصري والعربي، والذي يجب عدم التفريط فيه، وقد كان إنصاف الرجل لمدرسة الإخوان، واستقلاله الفكري، سببا كبيرا في علو شأنه لدى الجماعة، على مستوياتها المختلفة، فهو لشبابها مرجعية فكرية متميزة، محبوبا لديهم، ولقادتها ناصحا أمينا مقبولا عندهم، وما زال على موقفه منهم حتى بعد أحداث الانقلاب في مصر، حيث رفض الانقلاب العسكري على حكم الإخوان في بيان مصور، مبينا بطلانه وبطلان إجراءاته.
موقفه من الكنيسة
لم يحمل عمارة أي عداء للكنيسة ولا للمسيحيين في مصر، ولكنه كمفكر وكاتب، اختلف مع بعض سياسات الكنيسة في فترة من الفترات، ولاسيما فترة البابا شنودة، حيث يرى أن مصر لا تعرف الفتنة الطائفية، ولا تكاد تسمع بهذا المصلح بين أهلها، لحالة السلام المجتمعي المتعمقة فيها منذ القدم، غير أن سياسات البابا لم تكن موفقة في هذا الملف، كذلك موقفه من التنصير، وكتاباته النارية في هذا الملف، والتي كانت بمثابة عملية نسف لكل جهود التنصير، ووأد للفكرة في مهدها، وقد شكل ذلك اضطرابا بينه وبين قيادات الكنيسة فترة، كان سببا في منع مقالاته من جريدة الأخبار، ومقاضاته أمام القانون، ثم عاود الكتابة والنشر من جديد.