مصطفى السباعي.. الحياة للإسلام

تسعة وأربعون عاما هي عمر مصطفى السباعي في الحياة، إلا أن إنجازاتها كانت أكبر من تلك السنين، حياة يعرف فيها هدفه وغايته منذ بداياتها الأولى، فلم تضع الأيام سدى، عرف الطريق للصحافة وهو في الثانية عشرة من عمره، وعرف النضال الوطني والسجون وهو في الخامسة عشرة، وأسس دعوة الإخوان في سوريا وكان أول مراقب لها وهو في الثلاثينيات من عمره، وأسس كلية الشريعة وكان أول عميد لها وهو في الأربعين من عمره، عرفت حياته الجهاد بالكلمة والقلم والفكرة والسلاح، وكان صبره جميلا على مرض عضال استمر ثماني سنوات، فكان مثالا للإنسان النادر التكرار.

قصة الحياة

ولد مصطفى حسن السباعي عام (1915م) في حمص، في أسرة عرفت بالتدين والعلم، فأبوه وأجداده كانوا خطباء الجامع الكبير في حمص، وكان أبوه من المؤيدين للحركة الوطنية ضد الفرنسيين بعد احتلال سوريا عام (1920م)، وكان مشاركا في تأسيس عدد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية، فنشأ مصطفى على العلم، وكراهية الاستعمار، والاهتمام بالقضية الاجتماعية، وهي ثلاثية تمسك بها طيلة حياته. حفظ القرآن الكريم صغيرا، وكان والده أول معلم له، والتحق بالمدرسة الثانوية الشرعية، وتخرج فيها عام 1930، وأظهر تميزا في دراسته، كما كان حريصا على دروس فقهاء حمص، ومجالس العلم التي كان يعقدها والده، فتفتحت عقليته العلمية مبكرا، وكان متميزا على أقرانه في الدراسة الشرعية التي دعمها اهتمامه بالقراءات السياسية والأدبية. تفتحت عينا مصطفى على سوريا وهي محتلة، فأراد بحماسة الشباب أن يغير هذا الواقع الكئيب، فأسس في شبابه الباكر جمعية سرية لمقاومة الاحتلال في التعليم من خلال التحذير من المدارس التبشيرية (1) التي توسعت فرنسا في إنشائها بسوريا.

كان مصطفى موفور النشاط والعزم، وامتد نشاطه إلى الكثير من الأعمال الدينية والخيرية التي نشأت في حمص مثل "الرابطة الدينية" و"شباب محمد" و"الشبان المسلمين"، كما صعد المنبر مبكرا، وكانت حماسته، وتنوع معارفه، وتكوينه العلمي الرصين، عوامل جذب لأن يُكون أرضية واسعة من المتابعين لخطبه في المسجد، وكان وهو ابن اثنتي عشرة سنة يقرأ مجلة "الفتح" التي يرأسها المصلح محب الدين الخطيب، وينشر بعض المشاركات على صفحاتها. 

عانى مرارة السجن لأول مرة في حياته وهو في الخامسة عشرة من عمره، لكن قضبان السجان لم تنل من عزيمته، فخرج من السجن وباشر نشاطه داعيا إلى حرية بلاده، فتكرر اعتقاله، فقرر أن ينتقل إلى مصر للدراسة في الأزهر في العام 1933، حيث التحق بكلية أصول الدين، في وقت استقبلت فيه القاهرة زائرا جديدا هو الشيخ حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين، عندما انتقل إليها بدعوته في أكتوبر 1932م من الإسماعيلية، فالتقى الرجلان، وتأثر السباعي بالشيخ البنا، وانضم إلى الإخوان، كما بادر السباعي بالاتصال بالشيخ محب الدين الخطيب، وأصبح من كتاب مجلته الفتح. في العام 1941 اعتقل السباعي لمشاركته في مظاهرات بمصر تأييدا لثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، ويستمر في محبسه ثلاثة أشهر، ثم ينقل بعدها إلى معتقل في فلسطين، حيث بقى هناك أربعة أشهر أخرى قبل أن يطلق سراحه، في ظروف اعتقال بالغة القسوة.

العودة إلى سوريا

يعود السباعي إلى سوريا وهو في السادسة والعشرين من عمره، ويبدأ في تأسيس فرع لجماعة الإخوان في سوريا بمعاون كثير من العلماء والدعاة، وفي العام 1945 يُختار كأول مراقب للإخوان في سوريا. في هذه الأثناء شهدت سوريا نشاطا إسلاميا واسعا كان أحد أقطابه السباعي، فينشئ في العام (1947) مجلة "المنار" التي استمرت عامين قبل أن يعطلها أول انقلاب عسكري في الشرق الإسلامي في العصر الحديث بقيادة حسني الزعيم في مارس 1949. وفي أيام الحرب ضد اليهود قاد السباعي كتائب المجاهدين من الإخوان السوريين في حرب فلسطين عام 1948. وفي دراسته يحصل السباعي على درجة الدكتوراه بامتياز في رسالة مهمة بعنوان "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" عام 1949، وهو العام الذي شهد اغتيال حسن البنا.

وبعد عودته إلى سوريا، أقام في دمشق، وأصبح نائبا عنها في الجمعية التأسيسية عام 1949، ولعب دورا في صياغة دستور 1950، حيث خاض نضالا واسعا من أجل تضمين الدين الإسلامي في الدستور بعيدا عن التوجهات العلمانية، فكوّن "الجبهة الإسلامية الاشتراكية" في برلمان 1950، ودعا إلى سنِّ قوانين اقتصاديةٍ تحول دون الصِّراع الطَّبقي، وطرح رؤية الإسلام في المسألة الاقتصادية والسياسية، من خلال التأكيد على أن الإسلام يدعو إلى العدل الاقتصادي من خلال اشتراكيته التي تختلف عن النموذج الشيوعي، وحاول منافسوه أن يشوهوا صورته بعدما أطلقوا عليه لقب "الشيخ الأحمر". وكان للسباعي اهتمام مبكر في البرلمان بالقضية العمالية والفلاحية، من خلال حرصه على النص على حقوق العمال، وتحسين أوضاعهم المعيشية، كذلك سعى لحماية الفلاحين ضد أطماع النواب الإقطاعيين. وفي عام 1950 عُيِّن السباعي أستاذاً في كلية الحقوق بالجامعة السورية، وعارض انقلاب أديب الشيشيكلي، في نوفمبر 1951، فأمر الشيشيكلي بحل الإخوان في سوريا، في (17/1/1952) واعتقل قادة الجماعة وعلى رأسهم السباعي، وأمر بفصله من الجامعة، وطرده إلى لبنان، بعد حبسه أربعة أشهر، بسبب مطالبه بفتح باب التطوع للسوريين لمشاركة إخوانهم المصريين في القتال في منطقة قناة السويس عام 1952، وفي لبنان لم يتوقف نشاط السباعي إذ ساهم في تأسيس حركة الإخوان المسلمين هناك.

عارض السباعي ديكتاتورية الشيشيكلي، ولعب دورا في تأييد الإخوان للحكم المدني المتمثل في هاشم الأتاسي، حيث أيدوا عودته مجددا إلى الحكم في فبراير 1954، فعاد السباعي وجماعة الإخوان إلى ممارسة نشاطاتهم بحرية واسعة. وعقب صدام جمال عبد الناصر مع جماعة الإخوان 1954 في مصر واعتقال قادتها والآلاف من أعضائها، شكل الإخوان مكتبا تنفيذيا للإخوان في البلاد العربية تولى السباعي رئاسته، وعمل على إدارة الجماعة وتخفيف محنتها، وفي العام (1955) أسس مجلة "الشهاب" الأسبوعية التي استمرت في الصدور حتى العام 1958م، وتوقفت عقب الوحدة المصرية السورية، فأصدر السباعي مجلة "حضارة الإسلام" وكانت مجلة شهرية استمرت في الصدور حتى وفاته.

دوره الإصلاحي

منذ بداياته الأولى، كان مدركا لأهمية التعليم في بناء النهضة الإسلامية، فعمل على إدخال مادة التربية الإسلامية في المناهج التعليمية، وساهم في إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي لتقديم الفقه في ثوب جديد وعصري يقدم الحلول لمشكلات المسلم المعاصر، وكان أول رئيس للموسوعة، كما لعب دورا في إنشاء كلية الشريعة في الجامعة السورية عام 1955، وكان أول عميد لها، وكان يدرس بها إلى جانب التدريس بكلية الحقوق، ونظرا لمكانته العلمية انتدبته الجامعة السورية عام 1956 لزيارة للدول الغربية للاطلاع على مناهج المستشرقين، فالتقى بعدد منهم، وألف كتابا عن منهاجهم. وفي العام 1957 أصيب السباعي بمرض شديد تسبب في شلل في نصفه الأيسر، وكان رغم مرضه الشديد يصر على إلقاء محاضراته على طلابه في الجامعة، ومنها محاضرة استمرت ثلاث ساعات عن اشتراكية الإسلام التي تحولت إلى أحد أهم الكتب في الفكر الإسلامي التي خرجت في تلك الفترة.

استمر مرض السباعي ثماني سنوات، لم تقهره الآلام ولكنه انتصر عليها، وتلقاها بصبر جميل، وإصرار على أن يؤدي رسالته، فلم يكن يدع التأليف والكتابة والدعوة والتدريس رغم المرض، وألف في تلك الفترة كتابا مهما بعنوان "ماذا علمتني الحياة" أودع فيه خلاصات مكثفة لرؤيته في مسيرة الحياة، وكان أثناء علاجه بالمستشفى يكتب ملاحظاته رغم تحذير الأطباء له بعدم بذل أي مجهود، وفي يوم السبت (3/10/1964) توفي مصطفى السباعي.

أهم مؤلفاته

كان السباعي، رغم مشاغله السياسية والتعليمية والدعوية، غزير التأليف سواء على مستوى الكم، أو عمق الأفكار، وكانت الشريعة والسنة ميدانه الأول في التأليف، ومن بين مؤلفاته: "أحكام الزواج والخلالة"، و"أحكام الوصاية والوصية"، و"أحكام المواريث"، و"أخلاقنا الاجتماعية"، و"اشتراكية الإسلام"()، و"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، و"أحكام الصيام وفلسفته"، و"نظام السلم والحرب في الإسلام"، و"الدين والدولة في الإسلام"، "مشروعية الإرث وأحكامه في الإسلام"، و"المرونة والتطور في التشريع الإسلامي"، "القلائد من فرائد الفوائد"، و"هكذا علمتني الحياة"، و" المرأة بين الفقه والقانون"، و"من روائع حضارتنا"، و"السيرة النبوية"، و"الاستشراق والمستشرقون".