دارت النقاشات الطويلة، وما زالت، عن موقع الإمامة والسياسة في الإسلام، هل هي من الفروع، أم من الأصول، ولقد فند الدكتور محمد عمارة في كتابه الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، والذي اعتمد عليه تقريرنا، آراء القائلين بأنها من الأصول أم من الفروع، ورجح المؤلف رأي ابن خلدون والجويني وابن تيمية، وغيرهم من أئمة المسلمين، بأنها من الفروع التي تقع في دائرة المصالح العامة، المفوضة إلى نظر الخلق، وتخضع لنظر المسلمين وفقًا لدائرة المصالح العامة المفوضة إلى العقل، مع المحافظة على المقاصد العليا للإسلام في مصالح العباد, وأهمها تحقيق العدل والمساواة والشورى وتجنب الظلم والجور والاستبداد.
العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام
لقد قضى المسلمون عهدهم المكي على وضع الدين لا الدولة، تحت راية الإسلام التي يحملها محمد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يمارس خلال هذا العهد أي دور سياسي، فلا هو قائد دولة، ولا هو قائد سياسي عام، ورسالته في مهدها قائمة على التوحيد والبلاغ وبعض الشعائر التعبدية، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤسس دولة الإسلام، ويصير قائدها، يسوس أمر المسلمين، ويبحث فيها شئون دعوته، وينطلق منها إلى كل الدنيا برسالته التي بعثه الله بها للناس كافة.
إن العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام وطيدة، فلا هي تعترف بالفصل بينهما، ولا هي تعترف بتقديس الحاكم وتنزيهه حتى كأنه الحاكم باسم الله متمثلة في الكهانة، إن طبيعة العلاقة بين الإسلام والدولة والحكم ليس كما جاء في الحضارات السابقة، حيث يجمع الإسلام بينهما دون اندماج كلي ولا انفصال كلي، إنما يضع الإسلام القواعد الكلية، والخطوط العريضة، والناس أعلم بشئون دنياهم في إطار القواعد والأصول.
نقض مفهوم الكهانة السياسية في الإسلام
إن الإسلام يرفض الوحدة بين السلطة الدينية والسياسية كما في الكهانة الحاكمة باسم الله، ولا يفصل بينهما كما في العلمانية التي تعزل الدين عن ميادين الحياة، فهو يقرر مدنية السلطة السياسية الحاكمة، مؤكدا قيامها على الاختيار والشورى، وجاعلا لكل ميدان من ميادين الحياة قواعد ووصايا يبني الناس عليها، ومنها ينطلقون ليطوروا حياتهم ومجتمعاتهم، في إطار هذه القواعد الكلية والوصايا الإلهية.
إن الفكر الإسلامي يفرق بين السُنة الدينية التي هي من شأن الله ووحيه، والسُنة السياسية التي هي من شئون الحياة والسياسة، والتي تقبل النقاش والأخذ والرد، مثلما كان من أمر الحباب رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة بدر، وموقف النبي من المعاهدة الحربية الاقتصادية مع حلفاء قريش من نجد وغطفان كي ينصرفوا عن حصار المدينة أيام الأحزاب مقابل ثلث ثمار المدينة، وغيرها من المواقف.
الإسلام ونظام الدولة السياسي
إن الإسلام لم يحدد لأتباعه نظاما سياسيا محددا، لأن منطق صلاحية الدين الإسلامي لكل زمان ومكان، يقتضي ترك النظم المتجددة بحكم التطور الإنساني الرشيد، تُحدَّد طبيعتُها وفق مصلحة المجموع، في إطار الوصايا العامة والقواعد الكلية التي قررها الإسلام، مثل الشورى والعدل ومنع الضرر، وغيره من القيم والمثل العليا، فالدين لم يعلم المسلمين التجارة ولا الصناعة ولا تفاصيل سياسة الملك ولا طرق المعيشة، وإنما أوجب عليهم أن يعملوا ويحسنوا العمل.. وخلاصة القول أن كل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه، لا يطالب الأنبياء ببيانه.
حكم قيام الدولة في الإسلام
إن قيام الدولة في الإسلام واجب مدني، وضرورة دينية، لقيام بعض فرائض الإسلام وواجباته الدينية، مثل جمع الزكاة من مصادرها ووضعها في مصارفها، والقصاص وما يلزمه من تعديل للشهود وتنظيم للقضاء، ورعاية مصالح المسلمين، وتنظيم فريضة الشورى في أمور المسلمين، والقيام بفريضة العلم، ولقد شهدنا ذلك في التاريخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين امتنع البعض عن أداء الزكاة بحجة أن رسول الله هو الذي كان يتولى جمعها وتصريفها، وبموته تنقطع ولا تدفع، فما كان من أبي بكر إلا أن أعلن عليهم الحرب رغم معارضة كبار الصحابة وقتها، ولولا أن كان للإسلام دولة، لما استطاع أن يقوم بإقامة فرض الزكاة كما كان أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحيح أن قيام الدولة في الإسلام ليس فرضا من فرائض القرآن، ولا ركنا من أركان الإسلام، لكنه واجب راجع إلى أنه لا سبيل إلى أداء بعض فرائض الإسلام وواجباته إلا بقيامها، وبرغم وجوبها وضرورتها اتفق العلماء عدا الشيعة على أنها من فروع الإسلام، لا من أصول عقيدته، ولا أركان شريعته، وهي واجب مدني اقتضاه الواجب الديني.
معالم الدولة في الإسلام
لدولة الإسلام معالم تواترت أخبارها في أمهات مصادر التاريخ والحديث، ومنها:-
- أنها عقد سياسي وعسكري واجتماعي، وهذا ما اتضح من دولة الإسلام الأولى في المدينة، فقبل شهور من هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تم عقد تأسيس هذه الدولة بين الرسول وقادة الأوس والخزرج وممثليهم الذين التقوا به في موسم الحج، فكانت بيعة العقبة بين رسول الله وخمسة وسبعين رجلا وامرأتين من وجوه الأوس والخزرج، بمثابة جمعية تأسيسية لدولة الإسلام الأولى.
- دولة لها دستور: وقد تبين ذلك بعد الهجرة النبوية، حيث تشكلت الرعية السياسية لدولة المدينة - يثرب - التي قاد رسول الله حكومتها، ووضع لها دستورها ما يقارب خمسين مادة، لينظم به شئون الدولة في السلم والحرب، ويكفل للرعية حرية المعتقد المتنوعة والمتعددة داخل حدودها، والتعاون الأدبي والمادي، وما هو خاص بكل قبيلة وما هو عام في الرعية كلها، وموقف الدولة من الخارجين على الدستور، وعلاقة رعية هذه الدولة بمشركي مكة أعداء دولتهم، ولم يتغافل هذا الدستور حق الإسلام في قيادة الحياة وإدارة الدولة، فجاء من بين بنوده:
"وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله" لتكون للإسلام بهذا الهيمنة، ولرسول الله القيادة، وسُمي هذا الدستور بالصحيفة أو الكتاب.
- دولة متكاملة الأركان: نموذجها من دولة الإسلام الأولى في يثرب، حيث كانت نموذجا متكاملا، على رأسها قائد وأمير وحاكم وولي أمر هو محمد صلى الله عليه وسلم، وله وزراء اشتهر منهم هيئة العشرة المهاجرون الأولون، ونقباء الأنصار الاثنا عشر، وكان هناك من اختص بالحجابة والسقاية والكتابة والترجمة والخاتم وإمارة الحج وغيرها من شئون الدولة ومهامها، التي ترعى بها مصالح أبنائها.
وفي شئون الدين، كان هناك تعليم القرآن، والكتابة والقراءة، والإفتاء وتعليم الفقه، وإمامة الصلاة والأذان وغيرها.
وفي العلاقات الخارجية والإعلام، كان هناك السفراء والتراجمة والشعراء والخطباء.
وفي قطاع الحرب، كان هناك القادة أمراء القتال، وجندهم وتنوعت مهاهم بين: كتاب الجيش، وفارضي العطاء، ورؤساء الجند.
وكان هناك ولاة أمراء الأقاليم، والقضاة، وعمال الجباية والخراج، والزكاة والصدقات، وحراس الحمى، وصاحب العسس، وحراس الدولة وهم حراس المدينة، وأمراء الجهاد، والمستخلفون على المدينة وقت الجهاد، وأمراء أقسام الجيش الخمسة، وحراس قائد الدولة صلى الله عليه وسلم، ومن يُخذلون الأعداء، ومن يُبشرون بالنصر، وهكذا كان لكل مهمة من مهام الدولة من يقوم بها، فصارت الدولة متكاملة، راسخة قواعدها، ثابتة أركانها.
ختاما
إن هذه المعالم التي تميزت بها دولة الإسلام بينت بما لا لبس فيه ولا غموض، أن الإسلام يوجب قيام دولة متوازنة تجمع بين الدين والدنيا، تحكمها قواعد عامة، والناس فيها يرعون شئونهم بما يناسب واقع حياتهم، تحتكم إلى الدين في ثوابت النصوص القطعية الدلالة والثبوت، تاركة الظنيات لعقول الناس تبدع في فهمها وتطبيقها وفق قواعد الإسلام وأصوله المستقرة، رافضة العلمانية التي تعزل الدين عن الحياة، ورافضة الكهانة الحاكمة باسم الله على خلقه.
المصادر
- كتاب "الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية"- دكتور محمد عمارة - طبعة دار الشروق - الطبعة الأولى 1988