الدولة في الإسلام عند أعلام مدرسة الاعتدال (2)

الدكتور عمر الأشقر

يستغرب بعض المسلمين ويستعجب، لاسيما المتأثرون بالغرب، إن قلنا لهم إن الإسلام جاء ليقيم دولة، ويحكم أمة، وينظم حياة البشر على قواعد مترابطة متناسقة، ويؤسس للحكم والسلطة على أسس واضحة بينة، بل إن هناك أصواتا عالية تريد عزل الدين عن الحياة، وهؤلاء فريقان: أولهم كاره للإسلام عالم بحقيقته محارب له متربص بدولته، وثانيهم جاهل بحقيقة الإسلام مخدوع بما يُسوّق له من أفكار خادعة، وقد ساعدهم في ذلك حكومات بلادنا لما أقصت الإسلام عن الحكم، وأبقوا في دساتير البلاد، مجرد شعار مفرغ من مضمونه لا يعمل به، أن دين الدولة هو الإسلام.

مكانة الدولة في الإسلام

إن المسلمين الأوائل الذين أخذوا الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتنوا بإقامة دولة للدين، مثلما اعتنى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم لبعثته، حتى إنهم من اهتمامهم بذلك بايعوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفنوا رسول الله يوم مماته، ولم يختلف علماء الأمة يوما على وجوب إقامة حكومة إسلامية ملتزمة بحكم الله، ووجود إمام عادل يسوس الأمة بأحكام الشريعة، فالإسلام الذي أوجب على أقل أعداد الجماعة أن يؤمروا أحدهم إن كانوا ثلاثة، لا يترك أمة كاملة بلا إمام يجتمعون عليه، ويسوسهم وفق منهج الله وأحكام الشريعة. 

طبيعة الحُكم في دولة الإسلام

الحكم في الإسلام حكم إسلامي، له قواعده وأصوله وأسسه التي يقوم عليها، بريء من الديكتاتورية التي تجعل من الحاكم إلها لا يُسأل عما يفعل، فهو مقيد بالشرع، محاسب على أفعاله، والمستند القانوني للحكم في الإسلام هو الإسلام، فالقوانين الحاكمة فيه ربانية، وطاعتها واجبة، والإنسان بفطرته تطمئن نفسه إلى طاعة ربه وخالقه. والدولة في الإسلام ليست دولة دينية بالمفهوم الغربي، والحاكم فيها ليس منصبا من الله، فإن الله لم يفوض إلى أحد من عباده سلطانه، وليس للحاكم أن يقرر ما يشاء وقتما شاء، وإنما تنصبه الأمة، ويلتزم بأحكام الشرع ولا يحيد، وهو أمام الأمة مسؤول عن أفعاله، ولا ننكر أن بعض الحكام في تاريخنا قد أفسدوا لكن أكثرهم كان من الأخيار الأبرار. فتنصيب الحاكم في الإسلام حق أصيل من حقوق الأمة، ومن الظلم أن يستبد بعض الرجال بالحكم دون بقية الأمة، ولم ترد أية نصوص تبين الطريقة التي يختار بها الناس الحاكم، وهي مختلفة من زمان لزمان، بين مبايعة أهل الحل والعقد، أو أخذ البيعة من الناس كلهم مباشرة، أو أخذها من خلال الوزراء والولاة والنواب. وللحاكم حق الطاعة في كل ما يأمر به مما فيه صلاح الأمة، ولكنها ليست طاعة مطلقة، إذ هي مقيدة بطاعة الله ورسوله، فإن أمر بما فيه معصية الله فلا طاعة له، ويكون من حق الأمة حينها أن تعصيه، وأن تقوّمه ما حاد عن الحق أو ظلم.

حقوق أفراد الأمة

وإن كان هذا حق الحاكم في الدولة، فإن لأفرادها بحكم أنهم رعيته حقوقا، وجب عليه الوفاء بها، وهي حقوق أصيلة للناس كفلها لهم الإسلام، وطالب الحاكمَ بتأديتها والحفاظ عليها، وعدم التفريط فيها، وتتمثل في:- 

- حق الحياة، فلا يجوز للدولة أن تعتدي على أبنائها، حيث إن ذات الإنسان مصونة في الإسلام، فلم يحل الإسلام دم إنسان بغير حق، بل إن الدولة مُطالبة بحماية الإنسان من أيدي المفسدين، واعتداء المجرمين، بتوفير الأمن للناس في بلادهم وشوارعهم وبيوتهم.

- الحرية الشخصية مكفولة، في العمل والانتقال والتملك والسكن والزواج والنصح، وكل ما يعد من حقوق الإنسان في كل زمان، ما لم تخالف الدين، أو يُتعدّى بها على حرية الآخرين.

- الحقوق السياسية، في ممارسة انتخاب النواب والحاكم، ومراقبتهم ومراقبته، وتوجيه النقد والنصح إلى بطانته من الوزراء والولاة والنواب وغيرهم من عماله الذين استخدمهم في ولاية حكمه.

- حرية الاعتقاد، فالكافر لا يرغم على اعتناق الإسلام، فكل إنسان يعتقد ويمارس شعائر عقيدته في حرية تامة.

- عصمة المال، فمال الإنسان في دولة الإسلام معصوم كعصمة دمه، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عصمة الدماء والأموال في خطبة الوداع فقال "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم" فلا يجوز الجور على الإنسان في ماله، ولا إتلافه، أو أخذه منه بدون حق.

خصائص الدولة في الإسلام 

للدولة في الإسلام مميزات عدة، فهي دولة لها رب حاكم، فهو سبحانه له الخلق والأمر، والناس في دولة الإسلام تحتكم إلى منهجه، وينفذون قوانين شريعته، ويُسيّرون حياتهم وفق تعاليم رسالته، إرضاء لربهم، وضمانا لسلامة دنياهم، والفوز بآخرتهم، فهي دولة تربط الدنيا بالآخرة. وهي دولة عقيدة وفكر، تجمع الناس فيها أواصر الرابطة الإسلامية، بغض النظر عن الوطن والجنس واللون، ولا يوجِب شيء من ذلك الخلافَ والتناحر بين الناس، وهذا أرقى ما يناسب كرامة الإنسان، أن يُكرم لأنه إنسان، لا لأنه أبيض، أو من أبناء بلد معين، أو لأنه رجل أو امرأة. وهي دولة عالمية يقوم على إدارتها الكفاءات من أبنائها، فحكومتها وعقيدتها ورسالتها عالمية، يتقلد فيها الكفاءات المناصب، وإن اختلفت ألوانهم وأجناسهم، لتبلغ بذلك النهضة المرجوة لأهلها. وهي دولة شورية، تقترب وتبتعد من الإسلام بقدر التزامها بمبدأ الشورى، إذ هي القاعدة التي يقوم عليها صلاح البلاد والعباد. وهي دولة أخلاق وقيم، تحافظ على العهود والمواثيق، وتبني تصرفاتها وأعمالها على الأسس الأخلاقية، ولا تحقق مقاصدها إلا بالوسائل المشروعة، ولا تفصل بين الواقع العملي والأخلاقي، وتؤسس لدولة حضارية، تهدف لإعمار الأرض، وبناء نهضة الأمة معتمدة على تربية أبنائها وفق تعاليم الإسلام وأخلاقياته.

وظيفة الدولة في الإسلام

تتمثل أهم وظائف الدولة في الإسلام في:-

- القيام على أمر الدعوة، وإقامة الشريعة، وهداية الناس، وقيادة الأمة، وقد كانت هذه المهمة السامية – دعوة الناس إلى الهدى – وظيفة موكولة إلى الأنبياء في عهد بني إسرائيل، حيث كانت تسوسهم أنبياؤهم، وكلما هلك نبي قام نبي، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأمة الإسلامية فساستها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم حكامها وعلماؤها، وهم المعنيون بأمرها.

- إقامة العدل في المجتمع، فتُنصّب القضاة المعروفين بالعدل، وترعى مصالح الناس في كل مدينة وقرية، وتساوي بينهم في إتاحة فرص النجاح والوظيفة والتعليم والصحة وغيرها، وإسناد الوظائف إلى الكفاءات، الذين يملكون القدرة على العمل، ويتصفون بالقدرات البدنية والعلمية والفكرية، والأمانة في بذل الجهد وإتقان العمل، ولا يكون ذلك إلا بوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.

- حراسة العقيدة، بتبليغ الدين الصحيح للناس ومحاربة الخرافات، من خلال برامج الإذاعة والتلفاز، والمدارس والجامعات والمساجد.

- إعداد وتدريب أبنائها على الجهاد لحماية الدولة، وإنقاذ المستضعفين، وتأديب المستبدين، ومحاربة الجريمة، وصيانة الأمن الداخلي، وملاحقة المجرمين الذين يروعون الناس، وذلك بما يواكب العصر، بإنشاء المصانع الحربية، وتدريب الجنود، وتأهيل الجيش.

- الاهتمام بالنشاط الاقتصادي من خلال تنمية المجالات الاقتصادية المختلفة، والدخول في ساحة الإنتاج والتوسع فيه، والمنافسة في الصناعات، ومراقبة الأسواق، وحفظ حقوق العاملين، وتوفير الحياة الكريمة للناس، وجمع الزكاة التي افترضها الله على الأغنياء، وإعادة توزيعها على مستحقيها.  

المصادر

كتاب نحو ثقافة إسلامية أصيلة – الدكتور عمر بن سليمان الأشقر – طبعة دار النفائس 1994- الباب السابع (النظام السياسي في الإسلام) – بتصرف.