قليل في كلامه، عميق في أفكاره، عند التقاء  سن قلمه بسطح الورقة للكتابة يتجلى الامتزاج الفريد بين القانوني والتاريخي والمنهجي والسياسي والفكري، يظلل ذلك كله ضمير يقظ لا يغفو، وخلق رفيع بعيد عن السقطات، وقدرة نادرة على اتخاذ الموقف وتحمل تبعاته، وهو ما أنتج الحكمة، لذا كان مقربيه يطلقون عليه "الحكيم البشري"، فهو مؤرخ لا يعتبر أن مهمته تنتهي عند سرد الحدث، ولكنها تبدأ للإمساك بحكمة التاريخ.

البداية في الحلمية

ولد طارق عبد الفتاح سليم البشري في (14 من رجب 1352هـ=1نوفمبر 1933م) في بيت جده بحلمية الزيتون(1)، في أسرة عرفت بالعلم والثقافة والتدين، فجده  (2) هو الشيخ التاسع والعشرين للأزهر، وكان الشيخ سليم قد أنجب تسعة أبناء وبنتين، كان أصغرهم عبد الفتاح الذي أنجب أربعة أبناء كان أصغرهم طارق. عاش طارق في بيت جده وسط أعمامه، الذين كان لهم اشتغال بالفقه والأدب، خاصة الشيخ عبد العزيز البشري، الذي كان أديبا ذائع الصيت، أما والده عبد الفتاح فتخرج في كلية الحقوق، وعُين في القضاء، وتدرج في مناصبه حتى عُين رئيسا لمحكمة الاستئناف، ومات وهو في الثانية والخمسين من عمره.

في بيت العائلة كان الحديث لا يتوقف عن الشيخ سليم وتقواه وصلابته في الحق وشجاعته، وعلمه، فتسربت في نفس طارق مبكرا معايير القيم والإيمان والالتزام الأخلاقي بلا تكلف ولا عناء، ويحكي عن تأثيره جده في تكوينه، قائلا:" الشيخ سليم البشري كان صاحب السهم الأكبر في تربيتي، فكنت ألبس عباءته وأنا صغير، وأتدفأ بها"، وكانت للشيخ سليم قصة ملهمة في تكوينه العلمي، إذ انتقل من كونه عامل في التراحيل إلى أن يصبح عالما أزهريا كبيرا وشيخا للمالكية في زمانه، لذا ترسخت في نفس طارق منذ بداياته أهمية العلم في إضفاء القيمة على الإنسان قبل المال والسلطة. كانت العمائم تحيط بطارق في بيته، وفي تراث عائلته، لذا كان قريبا من فهمها، ومدركا لدورها في تشكيل وعي المصريين، ونضالها في حركة الاستقلال الوطني، فلم يؤد تعليمه في المدارس النظامية أن يهيل التراب على تلك العمائم، إذ كانت تتنفس كلتا رئتاه بين التراث والمعاصرة، أو بين العمامة والطربوش.

بين الجامعة والقضاء

في هذا الجو الثقافي والأدبي والديني نشأ طارق، فقرأ  كثيرا  من كتب الأدب، إلا أنه مال إلى التاريخ تأثرا بأحد مدرسي التاريخ المرحلة الثانوية وهو "محمود الخفيف" (3)، الذي كان يجهر بآرائه وسط الطلاب بلا وجل ولا خوف، وهو ما جعل طارق يدرك أهمية الدراسة التاريخية، وأنها رسالة لها عميق الأثر في تكوين الإنسان.

التحق بكلية الحقوق، ومع الجامعة أخذ يطلع على الفكر الغربي ومترجماته، وتأثر في سنواته الجامعية بدراسته لمادة الشريعة الإسلامية، ورغم أنه  كان يميل إلى النظر إلى السياسة من منظور علماني، إلا أنه  ظل له ارتباطه الوجداني القوي بالشريعة الإسلامية، وكما يقول :" كنت أشعر أن الشريعة الإسلامية ربانية لا يأتيها الباطل"، وكان يعتبر دراسته الشريعة هي وقت نزهته، وتأثر بالفقهاء العظام الذين كانوا يُدرسون له المادة في كلية الحقوق، مثل الشيخ: عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد أبو زهرة، وكان شديد الإعجاب بما أبدعه الفقهاء المسلمين من بناء فقهي في أحكامهم، كما تأثر بما أنتجه الفكر الإسلامي الحديث، خاصة الشيخ محمد الغزالي، حيث بدأ القراءة له منذ العام 1951.

تخرج طارق في كلية الحقوق وهو في التاسعة عشر من عمره، وعين بعد تخرجه بتسعة أشهر في مجلس الدولة (4) عام 1954م ، واستمر ثلاث سنوات منصرفا إلى الاهتمام بعمله، فكان لا يقرأ إلا في القانون فقط، وتوقفت قراءاته الأخرى، وبقي سنتين بعد تعينه يُساءل نفسه أيكون قاضيا صالحا أم لا؟ وعندما اطمأنت نفسه خرج إلى قبر جده، وقرأ قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام :"رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين"(5). مع عودته للقراءة، أخذ يطالع كتب الأدب الصوفي، والتاريخ، والسياسة، وكانت القضية التي انشغل بها هي قضية الاستقلال والحركة الوطنية، إذ كان السياق التاريخي العالمي والمصري يشهد تغيرات كبرى عقب الحرب العالمية الثانية، وهو ما انعكس في اهتماماته، ورغم تعاطفه مع حزب الوفد إلا أنه لم ينضم إليه، وكما يقول:" فالفكرة الحزبية ليست من الأشياء الموجودة في تكويني " وما نماها هو عمله قاضيا، حيث حرم عليه الاشتغال بالسياسة.

بين الفكر والمراجعة

كانت قضية الاستقلال الوطني أهم قضية شغلت تفكير طارق البشري طوال مسيرته الفكرية والحياتية، وفي ظل تحولاته الفكرية، فقد كان يدعو إلى تحرير الجسد الوطني من الاستعمار، وتحرير الروح والعقل من التبعية، وذلك من خلال بناء هوية وطنية مستقلة جامعة، نابعة من العمق التاريخي والحضاري، بعيدا عن المعايير الغربية، لذا كان ينظر إلى التراث على أنه شيء حي وفاعل في التاريخ المصري.

احتلت قضية الحرية مكانها الكبير في فكر طارق البشري وكتاباته، وسعى لتحقيقها لنفسه أولا، وكان دعاؤه لربه "أن يُبقي على مِلكي التام، تلك المسافة الصغيرة التي لا تتجاوز حجم الحصاة، والتي تقع بين سن القلم وسطح الورق، وأن يبقيها لي حرما آمنا" وقد قرن الحرية بالعدل، وله اجتهادات قانونية عميقة في مسائل الحريات والملكية، منها اجتهاداته أثناء عمله في مجلس الدولة عن العلاقة بين الحق في التعبير والثوابت الدينية، وبعد اجتهاد ونظر فكري وقانوني وفقهي، خلص إلى أن الحرية تقف عند أعتاب حق الغير. كان التاريخ هو قالب الفكر الأول للبشري وبخاصة تاريخ الوطنية المصرية انطلاقا من مفهومه للجامعة السياسية، التي يمثل الإسلام أكبر سماتها، فالتاريخ عنده وجه من وجوه الحوار بين الماضي والحاضر، كما  يجب أن يكون مُعليا لقيم الانتماء والتحيز الثقافي والحضاري، لذا كان في عمله التأريخي واعيا بدوره، ولم يكن أداتيا يسرد الحدث وكفى، لذا اختار موضوعاته ودرسها انطلاقا من قناعاته بدور المؤرخ كمثقف لا مجرد حرفي.

وفيما يتعلق بتحولاته الفكرية، فنتيجة لاطلاعه على الفكر الغربي، تأثرت رؤاه السياسية بالعلمانية، وهو ما انعكس في كتابات المبكرة في مجلة الطليعة التي بدأت عام 1964، وتأثره بالتجربة الاشتراكية، وموقفها من قضية العدالة الاجتماعية، لكن علمانيته لم تكن فجة ضد الدين، وعلل ذلك بأنه كان يمتلك إيمانا صوفيا بأن الله هو الرازق، وأن الموت والحياة بأمر الله، تلك القضايا كانت تبعث طمأنينة في قلبه، وتربطه برباط وثيق مع الإسلام، كما أن دراسته للفقه قادته إلى الشريعة وعظمتها. ثم جاءت هزيمة 1967، لتجعل البشري يعيد النظر في مسلماته الفكرية، ويبدأ رحلة بحث عميق عن أسباب الهزيمة، والخلل الذي نفذ منه الاستعمار إلى جسد الأمة المسلمة، وانعكس هذا القلق على كتاباته، فشغلته فكرة الاستقلال لينقب عن مضمونها وجذورها العميقة.

كانت بواكير هجرته للعلمانية في العام 1979 عندما كتب مقالا مهما بعنوان "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" ظهر في ذروة احتدام الجدل في مصر حول المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وكانت استعادته لرؤيته الإسلامية بعد رحلة الحج عام 1983، ويقول عن ذلك:" ولم أسافر للحج إلا بعد أن وجدت نفسي خلصت لهذا الأمر، وأعدت بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي، وقد أخذ مني ذلك وقتاً كبيراً حتى أسافر وأنا نظيف ...من هنا بدأت استعادتي لهويتي، وبدا لي الفكر العلماني في مأزق، لأنه يؤدي إلى تجريد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضاراته". وفي 30/6/1998 انتهت ولايته في القضاء، وكان النائب الأول لرئيس مجلس الدولة ، وكانت مدة ولايته (44) عاما. وبعد ثورة يناير 2011، وضع المجلس العسكري ثقته في طارق البشري باعتباره شخصية التقى عليها الطيف المصري ليرأس لجنة التعديلات الدستورية. 

أهم مؤلفاته

للبشري عدد من المؤلفات في التاريخ والسياسة القانون، أهمها:

-"الحركة السياسية في مصر 1945-1952" وظهرت طبعته الأولى عام 1972، وعندما أعاد طبع الكتاب قام بمراجعة واسعة عما كتبه عن جماعة الإخوان المسلمين.

-"المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" ، و"الديمقراطية والناصرية"، "سعد زغلول يفاوض الاستعمار"، "الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970"، و"دراسات في الديمقراطية المصرية"، و"بين العروبة والإسلام"، و"بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي"، و"ماهية المعاصرة"، "نحو تيار أساسي للأمة"، و"شخصيات تاريخية"، و"اجتهادات فقهية"، "من أوراق ثورة 25 يناير"، و"مصر بين التفكك والعصيان"، و"القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء"، و"الدولة والكنيسة"، و"العرب في مواجهة العدوان"، و"قراءت فكرية وهموم مصرية".