اسم الكتاب: الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر

المؤلف: طارق البشري

الناشر: دار الشروق 

الطبعة: الأولى

سنة الطبع: 1417هـ= 1996م

عدد الصفحات: 100

ملامح الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (1-3)

 

الكتاب هو بحث في الوعاء الزمني، في القرنين التاسع عشر والعشرين، الذي تستقي منه رواد مدرسة الاعتدال أفكارها وحركتها في المجال السياسي، والكتاب هو مشاركات فكرية متعددة للمستشار طارق البشري في عقد الثمانينيات، جاءت بعد مراجعته الفكرية في تلك الفترة، والتي حسمها نحو الفكرة الإسلامية. والحقيقة أن " البشري" لم يكن غريبا على الفكرة الإسلامية، فهو بحكم موقعه كقاض في مجلس الدولة المصري، كان متماسا يوميا مع الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالقانون الوضعي، وبحكم نسبه فجده سليم البشري كان شيخ الأزهر، ومن رواد التجديد فيه. يتكون الكتاب من تسعة عناوين، منها: الملامح العامة للفكر السياسي المعاصر، وسيد قطب بين فكر الحرب وفكر الإسلام، وسيبقى الغلو ما بقي التغريب، والإسلام والعصر ملامح فكرية وتاريخية، وقضايا البنية التحتية في السياسة.

الموجة الأولى من التجديد

بدأ التاريخ المعاصر بحركتين للإصلاح، إحداها بعيدة عن السلطة، والأخرى تبنتها السلطة.

الأولى: حركة التجديد الفقهي والفكري، والتي كانت بعيدة عن السلطة، فالدعوات التجديدية والإصلاحية كانت ظاهرة عامة في منتصف القرن الثامن عشر، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت بالشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، وكانت تقوم على التوحيد، وترفض البدع، وتعلن مسؤولية الإنسان، وتدعو لفتح باب الاجتهاد، وكذلك حركة "محمد بن نوح الغلاتي" في المدينة المنورة، و"ولي الدين الدهلوي" في الهند، و"محمد بن علي الشوكاني" في اليمن، و"الشهاب الألوسي" في العراق، و"محمد بن علي السنوسي" في المغرب، و"محمد بن أحمد المهدي" في السودان وتفادت هذه الحركات منطقة القلب من العالم الإسلامي (محور إسطنبول دمشق القاهرة) باعتباره مجالا تتركز فيه الهيمنة العثمانية، كما أنه كان مكانا لنفوذ المؤسسات المحافظة، المتصلة بمؤسسة الحكم.

الثانية: حركة الإصلاح المؤسسي: التي قامت في نهاية القرن الثامن عشر، ونهايات القرن التاسع عشر، على امتداد السلطة المركزية للدولة العثمانية، واستفتحت هذه الحركة بسعي السلطان سليم الثالث لإعادة بناء وتحديث الجيش العثماني، لكنها فشلت، وتلتها حركة السلطان محمود الثاني، وحركة محمد علي في مصر. والحقيقة أن ذلك الإصلاح في مجال الجيش، كان إصلاحا في استخدام الآلات القتالية، وتحديثها، وتحديث وسائل تنظيم الجيوش، وتمت الاستعانة فيه بالخبرات الغربية. لكن الملاحظ أن الإصلاح في تلك الفترة نزع إلى إنشاء مؤسسات بديلة، وليس تحديث المؤسسات القديمة، فلم يهتموا أن ينبثق الجديد من القديم، وإنما أبقوا القديم على قدمه، فكرا ومؤسسات ورجالا، وأنشئوا بجانبه المؤسسات الجديدة، برجال آخرين، وفكر آخر، فمثلا: بقي التعليم القديم، وأُقيمت بجانبه مدارس حديثه. وهنا نشأ الازدواج منهجا وتقليدا، وكان بالإمكان عدم حدوث صدع في المجتمع، لو أن الأمور تركت على طبيعتها، إذ كان سيحدث تفاعل بين النهجين، يقود إلى بناء حالة وسط، تكون قاطرة للإصلاح، لكن الذي حدث خلاف ذلك، إذ إن الازدواج ظهر، وتبعه تسرب النفوذ الأوروبي إلى كثير من المجالات والأنشطة في العالم الإسلامي، فكرا وعقائد ومؤسسات، فانصرفت المؤسسات الحديثة عن هدفها الأصلي المقاوم للنفوذ الغربي، إلى أن تصبح في كثير من الحالات أحد عوامل تثبيت هذا النفوذ ودعمه وتقويته. والغريب أن حركة الإصلاح المؤسسي في الجيش والدولة التي قادها السلطان العثماني محمود الثاني، ومحمد علي باشا والي مصر، اصطدمت مع حركة الإصلاح الفقهي والفكري وحاربتها، وعملت على تصفيتها، وتجلى ذلك في الصدام مع الحركة الوهابية عام (1811م)، فصار القديم أبترَ مقطوعا لم يُفض إلى جديد من نوعه ومادته، وصار الجديد أجنبيا لقيطا، وفد من نسق عقائدي آخر، ومن بيئة اجتماعية مغايرة. 

الموجة الثانية من التجديد

وما إن حل القرن العشرون حتى صارت الازدواجية هي سمته الأساسية، وهذا ما ورثته مدرسة الاعتدال، فقد جاءت الموجة الثانية من التجديد، في وقت اكتمل فيه الغزو الأوروبي لقلب العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر، واستفتحت بجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وهنا أصبحت سمة هذا التيار التجديدي هي المحافظة، والدفاع عن العقيدة في وجه الغزو والتغريب، وبات على مدرسة الاعتدال أن تواجه أوضاعا متعددة تستدعي مواقف فكرية متباينة، إذ صار عليها أن تواجه التبشير، والتغريب، والفلسفات المادية، وهذا ما جعل رواد مدرسة الاعتدال أمام الكثير من التحديات فكرا وعملا، فالفكر الإسلامي الحديث فكر شُيد وتراصت لبناته تحت خط النار، وبنيت قلاعه وسط قصف مدافع الخصوم.

حملت الموجة الثانية من التجديد وظائف جديدة، فلم تعد مهمتها فتح باب الاجتهاد، ولكن باتت مهمتها الدفاع عن أصول الدين وثوابته، وهوية المسلمين، ولعل هذا ما دفع كثيرا من المصلحين بعيدا عن الموقف التجديدي، حيث واجه هؤلاء الوافدَ من الأفكار والمؤسسات، وهو ما جعل مواقف بعضهم تميل إلى المحافظة الشديدة، بل ومعاندة التجديد في بعض الحالات، كما وقع البعض أسرى لتصور خاطئ وهو: أن فكرة التجديد تعني بذل الجهود لإسباغ بردة الإسلام على حياتنا ومعيشتنا والوافد منها. هذا الموقف حول الفكر الإسلامي إلى مجرد أداة تبرير وتسويغ للواقع، وجعل الإسلام محكوما بالواقع، وليس حاكما له. 

ويلفت الكتاب النظر إلى موقف مهم، وهو أن الفكر العلماني مع نهايات القرن العشرين أخذ يعمل بإصرار على أن يسيطر على أوضاع المجتمع بالكامل، وأن يصوغ المؤسسات الاجتماعية ومؤسسات الدولة بطابعه، وأن يفصل الدين عن المجتمع بعد فصله عن السلطة والدولة، وأن ينشئ نظاما علمانيا صرفا. وعلى الجانب الآخر، تحررت حركة التبشير من خوفها إزاء المسلمين، ورفعت شعار "تنصير العالم في جيل واحد" في مؤتمر المبشرين بالقدس عام 1924، لذا كان ظهور الإخوان المسلمين هو أحد الردود على تلك التحديات، فالشيخ حسن البنا صنع حركة إسلامية أكثر مما صنع فكرا، لكن تبقى "شمولية الإسلام" هي الحلقة الرئيسية في فكره، فتلك الشمولية هي استجابة إسلامية صحيحة -كما يرى البشري- تطلبها الواقع، عندما اتجهت حركة المجتمع إلى إضمار الإسلام وحصره في نطاق العلاقة الباطنية بين الإنسان وخالقه، وإلى تقييد الإسلام في نطاق العبادات فقط، وإقصاء الإسلام أن يكون حاكما لنظام المجتمع وعلاقاته.