العدالة الاجتماعية في الإسلام (2) – سيد قطب

أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام

إن الواقع الذي يَعُده الإسلام حقيقة، ليس هو واقع الفرد، ولا واقع أمة ولا جيل، بل إنه يعمل على صياغة واقع للناس جميعا، يسعهم ما بقيت الدنيا، ويرسم لهم معالمه ما دامت الحياة، لذا فالإسلام يقيم العدالة الاجتماعية على أسس ثابتة، ويحدد لبلوغها وسائل معينة، تتمثل أسس هذه العدالة في (التحرر الوجداني المطلق – المساواة الإنسانية الكاملة – التكافل الاجتماعي الوثيق).

أولا: التحرر الوجداني المطلق

إن العدالة الاجتماعية ما لم تستند إلى شعور نفسي باطن باستحقاق الإنسان لها، وواقع مادي يهيئ للفرد أن يتمسك بها، لن تتحقق، فهي لا تُستحق بالتشريع قبل أن تُستحق بالشعور، فالتشريعات ما لم تؤيدها عقيدة داخلية لن تطبق كما يراد لها، ولأن الإسلام يكفل حق الروح والجسد، فقد كفل التحرر الوجداني للفرد، في الوقت الذي اعتبرته الكنيسة من لذائذ الدنيا وشهواتها، واعتبرته الشيوعية نتيجة حتمية للتحرر الاقتصادي. لقد حرر الإسلام الوجدان الإنساني لَمَّا حرره من عبادة غير الله، ولم يخضعه إلا لسلطان الله، ولم يجعل رزقه إلا على ربه، وقد جاء القرآن يؤكد هذا المعنى، كي يسمو الإنسان بنفسه، ويترفع بها عن الانحطاط، فأثبت في كيان الإنسان تعلقه بقوة خالقه، وديمومة استجابة الله له ما قصده مخلصا من قلبه آناء الليل وأطراف النهار، وشرع له من الوسائل التعبدية العملية التي تعينه على ذلك مثل الصلاة والدعاء وغيرها، فما إن يتصل الإنسان بربه إلا وزال من كل شيء خوفه، ودبت فيه روح العزة، وتحرر من خوف الفقر، وضعف النفس، والاسترزاق من التذلل للعباد، والخوف على المركز والمكانة والجاه والمنصب. إن الإسلام لم يغفل حب الإنسان للمنصب والمال والجاه وزينة الحياة، فشرع ما يهذبها، ويسيرها في مسارها الطبيعي، فيأخذ الإنسان منها حظه الوفير، دون أن تستعبده، وتصده عن ربه، وتشغله عما افتُرض عليه.

ثانيا: المساواة الإنسانيه

 

متى استشعر الإنسان التحرر الوجداني، ووجد من الضمانات الواقعية والقانونية ما يؤكد في نفسه هذا الشعور، فلن يكون في حاجة لمن يهتف بالمساواة، ولن يصبر على ضياع حقه، وسيطالب به حتى يناله، باذلا مضحيا صابرا على تكاليف ذلك، وهذا على مستوى الغني والفقير سواء. لقد جاء الإسلام فقرر وحدة الجنس البشري في المنشأ والمصير، في المحيا والممات، في الحقوق والواجبات، أمام القانون وأمام الله، ولا ميزة بين الناس إلا بالعمل الصالح، ولا كرامة إلا بالتقوى، ولقد حارب الإسلام من أول يوم العنصرية والعصبية بكل أشكالها، ومنع تقديس ما لم يقدسه الله ورسوله، مهما كان شأنه في الناس، وحارب التمييز بين الناس على أساس الجنس، فلكل من الرجل والمرأة حقوقهما الأساسية، قائمة على مبدأ المساواة، ولم يتم التفاضل بينهما إلا في بعض الملابسات المتعلقة بالاستعداد أو التبعات، بما لا يؤثر على جوهر وحقيقة كل منهما، ولقد ضمن للمرأة المساواة الدينية، وحق التملك والكسب، واختيار الزوج والرضا به من عدمه، وحقوقها كزوجة وأم وابنة، وحارب جريمة وأدها وليدة بحجة أنها عالة يجب التخلص منها، ومنحها من الحقوق المادية والمعنوية ما يناسب طبيعتها وصفات خلقتها. إن الإسلام قرر الكرامة لكل بني آدم، وقرر الحقوق كلها لكل الجنس البشري، لا لأبناء قبيلة بعينها، ولا لأصحاب نفود أو سلطان، أو لون أو لغة، وإنما الحقوق مكفولة لكل الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم.

ثالثا: التكافل الاجتماعي

إن المجتمعات لا تستقيم ولا تستقر، إذا ذهب كل إنسان يستمتع بحريته المطلقة، بعد شعوره بالمساواة، دونما قيد مجتمعي تنتهي عنده حرية الفرد، فإن مصلحة المجتمع فوق مصلحة الفرد، تتوقف عندها حريته، وحرية الفرد مكفولة له في الحدود التي لا يضر معها بغيره، وإذا أهمل الناس ذلك هدم بنيان المجتمع، وتحولت الحرية جحيما. والإسلام وإن كان يمنح للفرد حريته في أجمل صورة، ويقرر له المساواة في أدق معنى، فإن هذا لا يعني أن يعيش الإنسان فوضويا، وإنما عليه أن يعمل للمجتمع حسابه، وللإنسانية اعتبارها، وللدين قيمته، فتتبع مصلحته مصلحة المجتمع، وهذا هو جوهر مبدأ التكافل الاجتماعي. وللتكافل الاجتماعي أشكال متعددة، تبدأ بالتكافل بين الفرد وذاته، والفرد وأسرته، والفرد والجماعة، والأمة والأمم، والجيل والأجيال المتعاقبة. فالتكافل بين الفرد وذاته، يُقوِّم نفس الفرد، ويضبط شهواتها، ويحمله أمام نفسه المسئولية الملقاة على عاتقه، والتكافل بين المرء وأسرته يقوي بنيانها، ويحفظ تماسكها، ويضمن قوة المجتمع، إذ هي نابعة من قوة الجسد الأسري، والتكافل بين الفرد والجماعة، والجماعة والفرد، يوجب على كل منهما حقوقا للآخر، فالفرد مكلف أن يرعى مصالح المجتمع، والمجتمع مكلف أن يحرس مصلحة الفرد، فلا يخرق كل منهما سفينة الآخر، والإسلام لا يعفي أحدا من رعاية المصالح العامة، لذا بين حق الفرد وما عليه تجاه المجتمع، وحق المجتمع وما عليه تجاه الفرد، وعقوبة كل من يتعدى على حق غيره، أو يضر بمصلحته.

وسائل العدالة الاجتماعية في الإسلام

بقدر ما يعمل الإسلام في داخل النفس، ويصلح في أعماق الضمير، بقدر ما يُبصر الواقع الحياتي، ولا يغفل عن حقيقة النفس البشرية، وما يعتريها من ارتفاع وهبوط، وبهذا العلم الدقيق يشرع ويوجه، ويصوغ أوامره ونواهيه، ويضع حدوده وتكاليفه، التي إذا نفذها الناس أصبحت الحياة ممكنة. وقد تجلت حكمة الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ أقامها على ركنين أساسيين، الضمير البشري من داخل النفس، والتكليف القانوني في محيط المجتمع، وزاوج بين القوتين، وأوكل إلى الضمير البشري تنفيذ ومراقبة الكثير من التوجيهات، ولأنه يعلم النفس وما قد يعتريها، أوكل إلى القانون وقوة السلطان رقابة الفرد، وإقامته على ما يجب عليه.

نموذج الزكاة

اتخذ المؤلف فريضة الزكاة والصدقة نموذجا لتوضيح قضية العدالة الاجتماعية في الإسلام، للعلاقة القوية بينهما، وكيف أن الإسلام غرس في وجدان العبد المسلم محبتها، والحرص على القيام بها، وخوّفه من البخل والشح، فبين أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وضرورة من ضرورات الإيمان، افترضها الله على القادرين للمحرومين، وحفز الوجدان على أدائها بآيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكلف الدولة المسلمة بأخذها بحكم الشريعة وقوة السلطان، فالزكاة حق في المال مقدر محسوب، محدد أبوابها ومصارفها، أما الصدقة فهي موكولة لضمير الفرد بلا حساب ولا قدر محدد، وهي ثمرة من ثمرات التراحم والأخوة النابعة من الإيمان المترسخ في أعماق الإنسان المسلم، لا تقتصر على صنف من الناس معين، ولا باب من أبواب الخير محدد، وإنما يهادى بها المسلم الأقرب فالأقرب، الأقرب نسبا، وجيرة وصحبة، حتى تقوى أواصر المحبة، ويتماسك بنيان المجتمع، وتسلم من أخلاق السوء نفوس العباد. 

إن الرحمة في الإسلام أساس الإيمان، ودليل نقاء القلب، والزكاة والصدقة والإنفاق طوعا واحتسابا، ابتغاء مرضاة الله، دليل الرحمة المتولدة من الإيمان، لذا كان من أعمال المؤمن كفالة اليتيم، وإكرام المسكين، وإطعام الفقير والأسير وابن السبيل، بل جعل الله الصدقة والإنفاق لوجهه والإطعام، حتى شربة الماء ولو كانت في حق حيوان، سببا رئيسا لدخول الجنة، ومنْعُ ذلك عن كبر، أو سطوة سيئة تطرح في النار صاحبها، فالرجل سقى كلبا فشكر الله له فأدخله الجنة، والمرأة حبست هرة حتى ماتت جوعا فقذفها الله في نار جهنم. ولقد عظم الإسلام عمل المتصدقين والمنفقين، واعتبره قرضا لله مضمون الوفاء به "من الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له"، وتجارة رابحة لا خسارة فيها "وأنفَقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور"، وتطهير للنفس، ودليل للوفاء مع الله في العهد والميثاق، ولقد جاء ذكر الصدقات في القرآن أكثر من ذكر الزكاة، لأن الزكاة فرض مقطوع به، أما الصدقات فقائمة على سلامة النفس من الهوى، والضمير من الخلل الإيماني، لذا كثر الحديث عنها، والترغيب فيها.