يمثل فكر الإمام البنا أحد المنطلقات الفكرية الأساسية لمدرسة الاعتدال التى طالما التزمت بأفكاره، وعندما نتناول رؤية البنا للعدالة الاجتماعية نجده كان من أوائل من نادوا بضرورة تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية من خلال العديد من رسائله ومقالاته التي تطرق فيها إلى الاقتصاد الإسلامي أو المشاكل المجتمعية.

ملامح العدالة الاجتماعية

يبين الإمام البنا في مؤتمر رؤساء المناطق والشعب عام 1945 أهم ملامح النظام الاقتصادي الإسلامي المبني على المساواة والعدالة وتحقيقها لكافة أبناء الأمة فيقول:

(لم يقف أمر النظام الاقتصادي الإسلامي عند هذا الحد، ولكنه رسم الخطط الأساسية للتقريب بين الطبقات، فانتقص من مال الغنى بما يزكيه ويطهره وينقيه ويكسبه القلوب والمحامد، وزهّده في الترف والخيلاء، ورغّبه في الصدقة والإحسان، وأجزل له في ذلك المثوبة والعطاء، وقرر للفقير حقًّا معلومًا، وجعله في كفالة الدولة أولاً، وفى كفالة الأقارب ثانيًا، وفى كفالة المجتمع بعد ذلك.

ثم قرر بعد هذا صور التعامل النافع للفرد الحافظ للجماعة تقريرًا عجيبًا في دقته وشموله وآثاره ونتائجه، وأقام الضمير الإنساني مهيمنًا عليها من وراء هذه الصور الظاهرية، كل هذا بعض ما وضع الإسلام من قواعد ينظم بها شأن الحياة الاقتصادية للمؤمنين.

وقد فصلت الحياة التقليدية الممسوخة التي يحياها الناس في هذه الأعصار بين الاقتصاد والإسلام، فقمتم أنتم ومن أهدافكم وأغراضكم الإصلاح الاقتصادي بتنمية الثروة القومية وحمايتها، والعمل على رفع مستوى المعيشة، والتقريب بين الطبقات، وتوفير العدالة الاجتماعية، والتأمين الكامل للمواطنين جميعًا، وإقرار الأوضاع التي جاء بها الإسلام في ذلك كله) (1).

الموقف من الإقطاع

كان للإمام البنا موقف واضح من قضايا الإقطاع والفلاحين والتي كانت منتشرة بصورة كبيرة في العهد الملكي وقبل قيام ثورة 1952 فخطب موضحاً حال الفلاحين ومدى الظلم الواقع عليهم فيقول البنا تحت عنوان “الإخوان والإقطاع”:

(إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشاً في الشهر إلا بشق الأنفس فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل في الأسر المصرية عامة كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار بل إن الحمار يتكلف على صاحبه "140 قرشاً وخُمس فدان برسيم و30 قرشاً حمل ونصف حمل تبن و150 قرشاً أردب فول و20 قرشاً أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشا" وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان) (2)

وفي إحدى مقالاته عن مأساة الإقطاع ورؤوس الأموال الضخمة التي يتملكها مجموعة بسيطة من رجال الأعمال والإقطاعيين كتب البنا متسائلاً تحت عنوان ”كيف تملكوا هذه الأراضي؟”:

(وهل في مصر مفخرة سوى الألقاب والرتب وذي إرث يكاثرنا بمال غير مكتسب.. بهذين البيتين يصف شاعر النيل حافظ إبراهيم هؤلاء السادة الذين وصلت أيديهم هذه الآلاف المؤلفة من الأراضي بدون جهد أو عناء ونالوا هذه الألقاب الضخمة لا لشيء إلا لأنهم ولدوا أبناء لمن تولوا فى يوم من الأيام أمرا من الأمور) (3)

الإسلام والعدالة الاجتماعية

يقول في حوار صحفي لجريدة روزاليوسف فى إجابة له عن سؤال هل تستطيع الشيوعية أن تجد لها مكانا في البلاد الإسلامية؟:

(في الإسلام ما يغنى الشعوب الإسلامية عن كل ما سواه من المبادئ.. وخصوصا وهو قد اهتم بالتقريب بين الطبقات، ورعاية المساواة والعدالة الاجتماعية وإشراب ذلك بروح العطف والتكافل.. ولو طبقت مبادئ الإسلام تطبيقا صحيحا، لما وجدت المبادئ الشيوعية أو غيرها أى مجال) (4)

وكتب في موضع آخر للرد على اتهام الثورات الإسلامية بفقدانها لتطبيق العدالة مقارنة بالثورتين الفرنسية والروسية فيقول تحت عنوان "ثورة":

(فيا أيها المنصفون، لا تظلموا الحقائق بجهلها أو بتجاهلها، واذكروا دائمًا أنه إذا كانت الثورة الفرنسية قد أقرت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والمساواة والإخاء، وإذا كانت الثورة الروسية قاربت بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية في الناس؛ فإن الثورة الإسلامية الكبرى قد أقرت ذلك كله من قبل ألف وثلاثمائة سنة، ولكنها سبقت سبقًا لن تُلحق فيه بأنها جملت ذلك وزينته بالصدق والعمل؛ فلم تقف عند حدود النظريات الفلسفية، ولكن أشاعت هذه المبادئ في الحياة اليومية العملية، وأضافت إليها بعد ذلك السمو بالإنسان واستكمال فضائله ونزعاته الروحية والنفسانية؛ لينعم في الحياتين، ويظفر بالسعادتين، وأقامت على ذلك كله حراسًا أشداء أقوياء من يقظة الضمير، ومعرفة الله وصرامة الجزاء وعدالة القانون.. فهل بعد ذلك من زيادة لمستزيد؟ اللهم لا). (5)

كما كتب الإمام البنا تحت عنوان أمانة الله والرسول ليؤكد على أهمية البعد الإنساني والاجتماعي في المنهج الإسلامي فيقول:

(وكل ما تحتاج إليه هذه البشرية من مثل عليا ومبادئ سامية، وخطط عملية دقيقة، وأوضاع حيوية سليمة.. كل ذلك قد تضمنته هذه الرسالة الإسلامية “أمانة الله ورسوله والمؤمنين”؛ فالربانية والأخوة العالمية والعدالة الاجتماعية والمشاعر الروحانية والعواطف الإنسانية، والرحمة والسلام والتعاطف والوئام.. كلها قد وضحت في هذه الشريعة، واستحالت بعد وضوحها إلى أعمال يومية، وخطط تطبيقية، وشرائع عملية تسوق المجتمع سوقًا إلى ما فيه خيره وسعادته في الدنيا والآخرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "والله ما تركت من خير إلا وأمرتكم به، وما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه)  (6)

العدالة الاجتماعية هدف من أهداف الثورات

يوضح البنا أن أهم أهداف التخلص من الاحتلال والهيمنة الغربية هو تحقيق العدالة الاجتماعية وأن الظلم الاجتماعي أحد أهم أسباب الثورات فكتب تحت عنوان مَطلع الفجرْ:

(ولنا مع قضايانا هذه السابقة, قضية أخرى لا تقل عنها خطرًا ولا تنقص أهمية, وهى قضية أوطاننا وديارنا, التي باغتها الاستعمار الغربي بعد أن بيت لها أجيالاً طويلة. فأحاط بها, وقيد حكوماتها وشعوبها وحال بينها وبين التقدم, وبلغ ذلك مداه في نهاية الحرب العالمية الأولى, إذ كانت مصر تحت الحماية البريطانية, وفلسطين والعراق في قبضة إنجلترا، وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش في يد فرنسا, وطرابلس وبرقة مع إيطاليا, حتى تركيا الأوروبية والآسيوية وهى دار الخلافة وقعت تحت نير احتلال الحلفاء، وأدى ذلك الاسترقاق والاستهتار بكرامات الأمم وحريات الشعوب إلى انفجار الثورات في كل مكان, واشتد النضال بين أصحاب الحق وغاصبيه حتى تحررت هذه الأوطان بعض الشيء، وتيقظت وعرفت طريقها إلى الجهاد والكفاح. وجاءت الحرب العالمية الثانية، وهذه البلاد كلها تجاهد في صف الدول الديمقراطية إذ أقسم زعماؤها وأكد رؤساؤها أنهم إنما يكافحون في سبيل الحرية وإقرار العدالة الاجتماعية فى أرض الله وكان طبيعيًا وقد وضعت الحرب أوزارها أن يطالب المظلومون بحقهم، وأن يجاهدوا في سبيل تحرير أوطانهم (7)