نستكمل في هذه الحلقة قراءة وتحليل كتاب دعاة لا قضاة, وأهم القضايا والآراء التي تناولها في فترة حساسة ومهمة من تاريخ مدرسة الاعتدال المعاصرة.يتناول الكاتب تحديد بعض المفاهيم التى تثير الجدل ويتم توظيفها عقائدياً من قبل البعض، ويناقشها وفقاً لقواعد الكتاب والسنة.
أولا:- الجحود
بيَّن الكاتب أن الجحود هو: الإنكار والتكذيب، وأن الكفر هو: صفةُ من جحَد شيئًا مما افترض الله –تعالى- الإيمان به بعد قيام الحجة وبلوغ الحق، أو صفة من عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج لفاعله عن اسم الإيمان، ولا يجوز إطلاق الكفر إلا على من هذه صفته في الدين. وبين أن الجحود قد يكون بالقلب دون اللسان وهذا هو النفاق، أو باللسان دون القلب في غير إكراه، أو بهما معًا، وكل منهما كفر بلا نزاع، كما بين أن الجحود يفترض حتمًا معرفة الجاحد بما افترض الله -عز وجل- الإيمان به، فلا جحود إلا بعد بلوغ الحقِّ وقيام الحجة.فلا يجوز إطلاق اسم الكفر إلا على من هذه صفته في الدين أي على الذي جحد شيئًا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه أو الذي عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له عن اسم الإيمان، وذلك أن الله تعالى نقل عن لفظة الكفر معناها اللغوي الذي كان لها أصلاً، وجعل له معنى خاصًا هو الذي أسلفناه وأصبح هذا المعنى هو معناها الأصلي الذي إذا ما أطلقت أفادته. ومن ثم فإنه لا يجوز لنا أن نسمي كافرًا إلا من سماه الله كافرًا، وإلا فإن كل إنسان يؤمن بأشياء ويكفر بأشياء، فالمسلم كافر بقول اليهود عزير ابن الله، وبقول النصارى المسيح ابن الله، والإجماع أنه لا يجوز لذلك تسمية المسلم كافرًا على الإطلاق، وإنما يقال كافرًا بكذا وكذا، وكذلك فإن اليهودي مؤمن بأن موسى رسول الله عليه السلام، والإجماع أنه لا يجوز تسميته لذلك مؤمنًا على الإطلاق، ولكن يقال إنه مؤمن بكذا وكذا على وجه التحديد.
ثانياً:- الشرك
وضح أن الشرك بمعنى الكفر سواءً بسواءٍ، فقد استعملتهما النصوص كمصطلح شرعي يقع على معنى واحد، كما جاء في قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف، وفي البراءة من المشركين في سورة براءة، وفي الحديث عن عبودية اليهود والنصارى للأحبار والرُّهبان في هذه السورة، وناقش -رحمه الله- الآراءَ التي ذهبت إلى التفريق بينهما. كما بيَّن أن هذا هو مقتضى اللغة: فالمشرك لابد أن يكون كافرًا؛ لأن الله قد أقام الحجة الدامغة على وجوده ووحدانيته، فمن أشرك به فقد جحد هذه الحجج، وستر الحق وكفرَه، فهو كافر، والكافر لابد أن يكون مشركًا؛ لأنه بجحده الحجج الدامغة الدالة على التوحيد يكون قد جعل حجته التي ابتدعها أو حجة من اتبعه في هذا الشأن أكمل وأعدل من حجة الله -عز وجل- فيكون بذلك قد جعل نفسه أو من اتَّبع حجته ندًّا لله عز وجل. وبين أن من الشرك: أن يعتقد الشخص أن شيئًا أو شخصًا، أو مجموعة من الناس، له سلطان ذاتي؛ أي خارج عن سلطان الله، ويندرج في ذلك: الظنُّ لأحدٍ من هؤلاء شفاعة عند الله لازمة القبول، وإن من الشرك أيضًا: التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو عدم الرضا بحكم الله -عز وجل- وتفضيل حكم غيره عليه، أو استحلال ما حرمه –تعالى- أو تحريم ما أحله بعد بلوغ الحقِّ، وقيام الحجة.وأكد على ضرورة التفريق بين العمل والعقيدة، فالعامل على خلاف الأمر مع صحة اعتقاده عاص لله، فإن اقترن ذلك بعدم الرضا بحكم الله، أو الاعتقاد ببطلان حكمه تعالى، أو تفضيل حكم آخر عليه فذلك هو الشرك والكفر. وبيَّن أن الأصل في المسلم -إذا جاء بمعصية- هو: الإقرار بالتوحيد وعدم الجحود إلا أن يجاهر بأن خروجه عن أمر الله كان استحلالاً للمخالفة، أو لعدم الرضا بحكم الله، فإنه حينئذٍ يكون كافرًا مشركًا، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستفصل من أصحاب المعاصي، هل اقترفوا معاصيهم جحودًا لحكم الله، أم لمجرَّد الهوى والشهوة. وبيَّن أنه لا يصح أن يقال لكل عاص: إنه قد اتخذ إلهه هواه، أو عبد الشيطان؛ لأن هذه الصفة لا تطلق في الدين إلا على من كفر بالله وارتدَّ عن ملة الإسلام، وإنما يصح أن يقال: إنه اتَّبع هواه، أو اتَّبع الشيطانَ.
ثالثاً:- الردة
بيَّن المؤلف أن الردة هي: الرجوع إلى الكفر بعد الإسلام، وأن حكم المرتد هو القتل، وذكر الإجماع على أن من جحد شيئًا مما افترضه الله عليه بعد البلاغ وإقامة الحجة حكم بكفره ورِدَّته؛ وذلك أن الجحود يكون بالقول إلا فيما ورد نصٌّ صريح فيه بأن عامله ينتفي عنه اسم الإيمان وإن لم يتكلم، وأن القول يصدق على كل ما يقع عليه في اللغة اسم القول كالكتابة، سواء ظهرت في صورة كتاب أو مقالة أو صورة، وسواء سميت قانونًا أو لائحة أو قرارًا، أو غير ذلك، وأنه قد يقع اختلاف في فهم القول وإذا ما كان يتضمن الجحود والتكذيب أم لا، وأنه يجب التيقن من ذلك، وطرح الظنون، فمن يثبت له عقد الإسلام فلا يحكم بردته بظنٍّ.وذكر أنه قد وقع خلاف حول بعض الأعمال وإذا ما كان صاحبها مرتدًّا أم لا، ومردُّ ذلك إلى الاختلاف في صحَّة بعض النصوص الواردة في هذا المقام، أو الاختلاف في فهمها، وبيَّن أن أهل السنة متفقون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرًا ينقله عن الملة، وأن خلافًا لفظيًّا نشأ بينهم حول مدى جواز اعتبار الكفر مراتب كالإيمان أم لا. فمن ذهب منهم وهم الجمهور إلى أن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص جعل الكفر على مراتب كالإيمان، فصار عنده كفرُ اعتقادٍ، وكفر عملٍ، وكفرٌ دون كفرٍ، ومن ذهب منهم -وهم الحنفية- إلى أن الأعمال شرائع الإيمان وثمرات له وليست من حقيقته جعل إطلاق الكفر على بعض الأعمال التي لا تُخرج عن الملة من قبيل المجاز؛ لأن الكفر عندهم شيء واحد وهو الخروج من الملة بترك التصديق أو ترك الإقرار باللسان.
رابعاً:- النفاق
وبيَّن أن حقيقة النفاق: أن يُظهر المرءُ خلافَ ما يبطن من الدين، وأن منه ما يخرج من الملة ومنه ما هو دون ذلك، فإن جحد بقلبه شيئًا مما افترض الله عليه الإيمان به فذلك النفاق الأكبر، وصاحبه خارج من الملة -على الحقيقة- وإن كانت الأحكام تُبنى على الظاهر، أما إن أبطن خلاف ما أظهر، في بعض الأمور المنهي عنها شرعًا والمعتبرة معاصٍ، فذلك هو النفاق الأصغر، وصاحبه من أهل الوعيد، وذلك كالكذب، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجر في الخصومات ونحوه.
خامساً:- الحاكمية
بين أنه قد جرت على بعض الألسن لفظة "الحاكمية" تعبيرًا عن معان وأحكام تضمنتها آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ثم أسندت اللفظة إلى اسم المولى عز وجل فقيل "حاكمية الله". ثم تفرعت عن اللفظة مضافة إلى اسم المولى عز وجل أحكام، فقيل: إن مفهوم "حاكمية الله" كذا وكذا ومقتضى ذلك أن يعتقد الشخص كذا وكذا، وأن يكون فرضًا عليه أن يقوم بكذا وكذا من الأعمال، فإن لم يعملها وعمل غيرها فهو خارج عن "حاكمية الله" تعالى فوصفه كذا.ونحن على يقين أن لفظة "الحاكمية" لم ترد بأية آية من الذكر الحكيم، ونحن في بحثنا في الصحيح من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد منها حديثًا قد تضمن تلك اللفظة فضلا عن إضافتها إلى اسم المولى عز وجل. والأحكام الشرعية تؤخذ من كلام الله تعالى وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لا من أقوالٍ أو مصطلحات يضعها الناس، أيّا كان هؤلاء الناس. ولا حاجة لنا بعد كتاب الله وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بأن نتعلق بأية مصطلحات يضعها بشر غير معصوم