يُستهل الفصل الثالث والأخير (حول الخلاف والحوار) ببيان الحاجة إلى الاستماع لـ"من" و"ما" حولنا، ثم الانتقائية التي نتبع فيها أحسن ما نسمع، متحرين أن يكون تبني الأفكار أو التخلي عنها مرهونا بـ"تكشف الحق"، وهذا يشير إلى ضرورة الحوار مع الآخر، فبه يرجى وصول الإنسان إلى الحق، ويرجى أن يخطو خطوات في مدارج الكمال.
** من صور الحوار في القرآن
لذلك يسهب الكتاب هنا في ذكر الكثير من صور الحوار في القرآن، سواء مع المخالفين أو الموافقين الداعمين، مقترنا في الحالين بالكلمة الطيبة.
- فالرسول –عليه السلام- يرمونه بالتهم كالكذب والسحر والكهانة... ويصمد لهم صمودا باهرا، ويرد عليهم بلسان الوحي القرآني كل ما يتهمونه به، ردا قويا مفحما دون أن يصاحب ذلك كلمة مسفة أو عبارة خارجة، فنقرأ قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) قالوا إنه "أُذُنٌ" أي سريع الاستماع والإجابة لكل ما يقال له، فصدقت الآية الوصف ثم فسرته، فهو سريع الاستماع والإجابة لكل شيء أو قول فيه خير للمؤمنين، قوي الإيمان بالله والاعتماد عليه، قوي الركون إلى المؤمنين المخلصين والاعتماد عليهم أيضا.
- وفي سورة الأحزاب نقرأ: {يَاأيهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) هنا موضع حوار مع مناصر موافق لا مع عدو مخالف، فزوجاته –عليه السلام- طالبنه بالنفقة والاستمتاع بمتع الحياة بأوسع مما يستمتعن به، فكان التخيير بهذا الأسلوب الرقيق لهن بين رضائهن معه على ما تطمئن به نفسه ولا يتعارض مع مهمته وخُلقه، وبين انصرفهن عنه وتركه يتفرغ لأعباء واجبه الأكبر. المهم في مجال الحوار أن يكون مع الأقرب إلى قبول الحق، والحوار مع المخالف لا يعني مهادنته أو التنازل عن الحق لأجله
- وفي هذا السياق يشير المؤلف إلى أن من المهم في مجال الحوار أن يكون مع الأقرب إلى قبول الحق، وأن الحوار مع المخالف لا يعني مهادنته أو التنازل عن الحق لأجله، بل لابد من التمسك بالحق دائما، وفي سورة الإسراء نقرأ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا* وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إليهمْ شَيْئًا قَلِيلًا* إذا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (3).الطرف الثاني في المشهد هم زعماء قريش ممن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر الاتصال بهم ويتوسم الاستجابة منهم، وقد عرضوا عليه بعض العروض حتى يبايعوه، ولعله خطر بباله أن يتساهل بعض التساهل معهم حرصا على هدايتهم، ولكن الله عصمه، لأن فيما طلبوه شيئا من الشرود والخروج عما أوحى الله إليه من أسس الدعوة. والآيات تقول إنه "كاد" أي لم يقع منه قول أو فعل، فقد مال النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى شيء مما طلبوا رغبة في إسلامهم دون أن يتعدى الأمر الخاطر إلى الفعل. وقوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إليهمْ شَيْئًا قَلِيلًا} يدل على أن ما خطر بباله من الجنوح للتساهل قد كان في شيء غير مهم مما يصح أن يوصف بأنه كان اجتهادا فيه خلاف الأولى الذي في علم الله وحسب.
** قواعد منهج حوار القرآن مع المشركين:
أ- عرض أكبر قدر من الأدلة العقلية.
ب- طلب الأدلة.
ج- الموضوعية وعدم التعرض للمواقف الشخصية.
بل إن المشركين أنفسهم هم الذين كانو يتعرضون –في حوارهم مع الرسل للمواقف الشخصية، فقالو مثلا لنبي الله نوح -عليه السلام-: {...وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ...} (4) فردهم النبي الكريم -عليه السلام- إلى الحجج الموضوعية فقال: -كما ذكر القرآن-: {...وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (5). وقال المشركون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا من هذا القبيل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (6).
- مجال الاختلاف
هنا يوضح الكاتب الدائرة التي تتعرض للاجتهاد ومن ثم للاختلاف، وهي كل ما عدا أركان الإسلام والإيمان التي وردت فيها نصوص قاطعة دون تفسير أو تفصيل، ويشير إلى أنه ليست هناك قضية من قضايا الفقه والفروع إلا فيها خلاف إلا ما ندر.
** مستويات الخلاف
والخلاف هنا على عدة مستويات:
1- نقص أو زيادة، فأبو حنيفة –مثلا- لا يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة إذ لم يصله الحديث الخاص بذلك، خلافا لعامة الأئمة.
2- بين الوجوب والندب، فيرى بعض الحنابلة وجوب قول "سبحان ربي الأعلى" للساجد خلافا لفقهاء يرون الاستحباب.
3- بين الحل والحرمة، مثل بيع التقسيط الذي حرمه البعض لشبهة الربا وأحله آخرون رعاية لمصلحة الناس وتخفيفا عليهم.
** وجوه الخير في الخلاف:
هنا يرفع الكتاب توهم أن وراء الخلاف شرا مستطيرا، بل العكس هو الصحيح وذلك لأسباب:
أولا: الصراع بين الخير والشر من سنن الحياة الإنسانية، ولن تستقيم الحياة ويعم الخير بدون ذلك الصراع، والمثال القريب لذلك هو المجتمع الديمقراطي حيث تتعدد الأحزاب وكل حزب يجتهد في تقرير مبادئه ويحسب أنه على صواب وغيره على خطأ.
ولا يستقيم المجتمع الديمقراطي بمجرد وجود الأحزاب، بل بوجود نشاط فعال يحمي الصراع ومع الصراع تستقيم الحياة ويأتي التسابق لخدمة الأمة.
الثاني: الاختلاف بين الخلق أمر طبيعي وفطري لا يمكن إلغاؤه، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ..} (7) وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (8)
** سؤال جوهري:
وهنا يتساءل الكاتب كيف يتكون من الاختلاف وحدة مادام شيئا طبيعيا؟ ويجيب: "انظر الاختلاف الطبيعي بين الرجل والمرأه والأطفال فى إطار وحدة الأسرة إنه لا معنى لهذه الوحدة إلا عند توافر هذا الاختلاف، وكذلك الاختلاف بين أفراد الجماعة، فالقدرة على القيادة لدى البعض والاستعداد للخضوع والطاعة لدى الآخرىن هو الذى يوجد وحدة الجماعة، ومع الاختلاف يوجد نوع من الوحدة التى تجمع أيضا هى وحدة الهدف".
الثالث: الاختلاف بين أفراد المجتمع ليس من طبيعة تكوين المجتمع فقط، بل هو أيضا من ضرورات تكوين المجتمع، وهناك علاقة وثيقه وارتباط أكيد بين التشابه والاختلاف في مظاهرهما الموضوعية، والمجتمع يقوم على إدراك التنوع والعلاقة بين المختلفين، والمجتمع يحتاج فى تكوينه إلى الاختلاف بقدر ما يحتاج إلى التشابه.
** من قواعد الخلاف الصحي
1_ الترحيب بالمخالف وما يحمله.
2_ إحسان الظن به.
3_ الرفق فى الإنكار على المخالف (دون تهجم أو تجريح لكن مع الصراحة الكاملة).
4_ الاعتدال والرفق فى ظن الصواب بأنفسنا.
5_ الخلاف الفكري لا يمنع التعاون العملي فى النشاطات المختلفة والخدمة العامة.
6_ الاختلاف فى الرأي لا يستلزم أن تكون ثمه عداوة بيننا وبين من يخالفنا.
** امتدادات الحوار
الحوار منهج فكري له امتدادات بعيدة وله مستويات عديدة كما يلى:
- حوار مع الذات.
- حوار مع الموافقين.
- حوار مع التراث.
** حوار مع النفس دون الآخر.
ومن تطبيقات ذلك أن الإسلاميين لا يستمعون إلى اليساريين ولا يرون ما حولهم وبذلك يصبح إدراكهم إدراكا تستخدم فيه نصف عين بل ربع عين بل عشر عين.
والمتحررون لا يستمعون إلى الإسلاميين كذلك, ولا بد من كسر حوار الطرشان هذا وعدم احتكار الحقيقه والصواب.
** هل من سبيل لإقامة جسور بين الطرفين؟
نعم إذا تصدى لذلك قوم يعرفون لغه الطرشان, وهؤلاء الطرشان لهم لغتان مستقلتان تمام الاستقلال أي قوم يلمون بطرف من لغة هؤلاء وبطرف من لغة أولئك ثم ينقلون تدريجيا ما عند هؤلاء لاؤلئك وما عند أولئك إلى هؤلاء والبدء فى ذلك بنقاط الالتقاء عند الفريقين.
** ومن نقاط الالتقاء هذه:
- جوانب من الخلق الرفيع يقر بها الطرفان.
- الرغبة فى إنهاض الأمة عند الطرفين.
- الاستعداد لتقبل نتائج أبحاث علمية ميدانية رصينة.
- إعادة عرض موضوعات مثل التجديد والبعث الديني.
- ونقول للفريقين إن الألوهية إن لم تكن تثبت للبحث العلمي والحوار الرصين فهي مجرد مشاعر عاطفية يمكن أن تقوم على خرافة كما يمكن أن تقوم على حقيقة.
** الحوار الذى نريد
من أنواع الحوار:
- الحوار التبشيرى بقصد الدعوة لرأي أو فكرة أو جماعة.
- الحوار الهجومي ويقصد به محاربة رأي أو فكرة أو جماعة.
- حوار المناظرة الذى يقصد الغلبة والانتصار والظهور.
- حوار البحث والتحري أي الحوار بقصد معرفة ما عند الغير وبقصد إنضاج ما عندك وتجربة صلابته.
** من قواعد الحوار الناجح
- تجنب قول كل طرف كلمته الأخيرة فى موضوع الحوار المطروح إلا بعد الاستماع لأدلة الأطراف الأخرى.
- من القواعد الذهبية للحوار قاعدة نتعاون فيما اتفقنا عليه ونتحاور ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
- استماع الحجة وقبولها.
- ألا يكون النقد بدافع الحقد.
** أمثلة لحوارات يمكن أن تجري:
- حوار حول تصور الدين للواقع.
- حول السنة النبوية الشريفة.
- الموقف من أحاديث الآحاد.
- مدى ارتباط المتن بالبيئة التى قيل فيها.
** من مميزات الحوار الجاد:
- الحوار نوع من عمل الفريق لا عمل الفرد.
- الحوار يجلي الصدأ الذى قد يصيب العقل.
- يربط النتائج بــأسبابها.
- يوفى النظرة الشاملة للموضوع.
- الحوار نوع من التجربة التى تدعم الفرضية أو تعدلها أو تلغيها.
- الحوار في مجال الفكر يقوم مقام إجراء التجارب فى مجال المادة.
وفى الختام يدعو الكتاب إلى التحاور بين الاتجاهات الفكرية المعاصرة، ويقرر الدور الذى قامت به فى إيقاظ الحس الإسلامي وتنشيط سعيه للتجديد، ويشير إلى أن هذه التيارات -وإن لم تقصد إلى ذلك- فإن تاثيرها لا ينكر، ويقول: "قد كان الحس الإسلامي فى نوم عميق وعجز شبه كامل حتى طرق هؤلاء أبوابنا بعنف".