مفهوم الدولة في الإسلام عند أعلام مدرسة الاعتدال (1) الشيخ القرضاوي
في الآونة الأخيرة ومع بروز دور مدرسة الاعتدال، وتعاظم أثرها في المجتمعات الإسلامية، وقدرتها على التمدد أفقيا ورأسيا في شرائح المجتمع المتنوعة، زادت الهجمة العلمانية على فكرة الدولة في الإسلام، لتخويف الناس منها، وراح المتصدرون باسم النخبة يربطون بين حكم الإسلام والحكم اللاهوتي الكنسي، الذي يحكم فيه الحاكم باسم الله، ويعتبر أمره من أمر الله لا يرد، وإن أخطأ، أو ظلم، أو أحل حراما وحرم حلالا، وكان حريا بنا أن نبين فكرة الدولة في الإسلام مفهومها وطبيعتها، ونظامها السياسي، عند مفكري وعلماء ومنظري الحركة الإسلامية المعاصرة، بصورة تيسر على القارئ فهم الفكرة، وتجلية المعنى، كي يعرف حقيقة دينه، وروح شريعته.
الدولة في الإسلام عند الشيخ القرضاوي (1)
- مكانتها
استطاع الاستعمار الغربي لديار المسلمين أن يغرس في عقولهم زيفا أن الإسلام دين لا دولة، لا صلة له بالحكم والسياسية وميادين الحياة، وإنما ذلك كله مرده إلى العقل الإنساني وحده، ولا دخل للسماء فيه، يريدون بذلك أن يطبقوا الإسلام وفقا لمفهومهم الغربي، بعد أزمة أوروبا مع الكنيسة، والحقيقة أن الإسلام دين شامل، نزل كتابه تبيانا لكل شيء، ليشمل الزمان والمكان والإنسان، وليس هذا ابتكارا من مدرسة الاعتدال، وإنما ما نطقت به النصوص الإسلامية القاطعة، ووقائع التاريخ الصحيحة، وطبيعة الإسلام الشاملة. وقيام دولة الإسلام واجب، يأثم المسلمون إن لم يحققوه، ولا ينجو المسلم من هذا الإثم إلا بأن ينكر ولو بالقلب عند العجز على الوضع المنحرف عن شريعة الله، وأن يسعى مع إخوانه المسلمين في إقامة حياة إسلامية، يوجهها حكم إسلامي صحيح.
ولقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤيدا بالوحي إلى إقامة دولة للإسلام، ووطن للدعوة، ليس لأحد غير الإسلام فيه سلطان، هذا من أول يوم بعث فيه، ومن أول يوم تحرك فيه بالدعوة بين القبائل يعرض نفسه ودينه عليهم، ويبحث عمن يعينه على إقامة دولة، حتى وفق الله الأنصار لذلك، وكانت المدينة هي دار الإسلام الأولى، وقاعدة الدولة الإسلامية الجديدة، ولم يعرف المسلمون خلال تاريخهم أبدا الانفصال بين الدين والدولة، إلا عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر، وهذا ما استشرفه رسول الله لما قال "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم، قالوا وماذا نصنع يا رسول الله، قال كما صنع أصحاب عيسى بن مريم، نُشروا بالمناشير، وحملوا على الخُشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله". إن طبيعة الإسلام ورسالته أنه دين عام وشريعة شاملة، تتغلغل في نواحي الحياة، تهتم بشأن الدولة والسلطة، كما تهتم بشأن المجتمع والأفراد.
- معالمها
إن الإسلام كما يسعى لبناء الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح، يسعى كذلك إلى بناء الدولة الصالحة، والدولة في الإسلام ليست صورة من الدول التي عرفها العالم قبل الإسلام أو بعده، إنما هي دولة متميزة عن كل ما سواها، بأهدافها ومناهجها ومقوماتها وخصائصها، فهي دولة مدنية تحكم بالإسلام، وتقوم على البيعة والشورى والعدل، ويُختار رجالها من كل قوي أمين حفيظ عليم، لا دولة كهنة، ولا دولة دينية بالمفهوم المسيحي تتحكم في رقاب العباد باسم الحق الإلهي، ولا دولة علمانية تنكر الدين وتنصب العداوة له، وتعتبره مخدرا للشعوب، وتعزله عن ميادين الحياة والمجتمع، ولا هي دولة عنصرية ترفض غير المؤمنين بعقيدتها على أرضها، بل ترحب بهم ما داموا يقبلون بأحكام شريعتها المدنية عليهم، أما ما يتعلق بعقائدهم وعباداتهم أحوالهم الشخصية، فهم أحرار فيها، يُجرونها وفق ما يأمرهم به دينهم. والحقيقة الغائبة أن الدولة في الإسلام ضرورة لا غنى عنها، حيث هي دار اجتماع الدين والدنيا، وامتزاج المادة بالروح، والتوفيق بين الرقي الحضاري والسمو الأخلاقي، والتوحيد بين أبناء الأمة كلها على راية القرآن، والجمع بين العلم والحُكم ليسيرا جنبا إلى جنب، دولة عَقَدية فكرية، تقوم على منهج وعقيدة، وليست مجرد جهاز أمني يحفظها من الاعتداء الداخلي أو الغزو الخارجي. هي دولة تقوم بتربية أبنائها على تعاليم الإسلام ومبادئه وأخلاقياته، وتجعل من تلك المبادئ والأخلاق واقعا ملموسا، يهيئ الجو لمن يريد الهداية، ويكون حجة على من يسلك سبيل الغواية، إنها دولة هداية لا جباية، همها نشر الدعوة، وتوصيل الرسالة، وفتح أبواب رحمة الله أمام الناس.
الدولة في الإسلام ليس لحاكمها عصمة، ولا صفة مقدسة تجعله فوق المساءلة أو المحاكمة، فهو واحد من الناس، يصيب ويخطئ، ويحسن ويسيء، وعلى الناس إن أصاب أن يطيعوه ويعينوه، وإن أخطأ أن يقوموه، وهو فيها وكيل عنهم وأجير عندهم. الدولة في الإسلام لا تقوم على حكم الفرد، ولا حكم الأسرة، وإنما توافق الديمقراطية في اختيار الحاكم، فلا يقودها أحد رغم أنفها، تحمي حقوق الضعفاء، لا مصالح الأقوياء، تفرض في أموال الأغنياء من الزكاة ما يرد إلى الفقراء، وتجعل لكل محتاج فيها نصيبا، دولة للمظلومين والمستضعفين الذين داستهم أقدام المستبدين المتجبرين، تقف في صفهم، وتقاتل في سبيل إنقاذهم، ولا نجد دينا وعى حقوق الضعفاء، وعمل على حمايتهم من ظلم الأقوياء كالإسلام. وهي دولة حقوق وحريات، فيها حق الحياة، والتملك، والكفاية من العيش، والأمن على الدين والنفس والعرض والمال والنسل، وفيها الحرية الدينية، وحرية الاعتقاد والتعبد، واحتكام كل إنسان لشريعته، وحرية القول والرأي، وحرية العلم والفكر، متسعة لمدارس الكلام والفقه والتفسير والتصوف وغيرها، تختلف مدارسها في الأفكار ويتعايش أبناؤها فيما بينهم. هي دولة مبادئ وأخلاق تلتزم بها ولا تحيد عنها، والغاية فيها لا تبرر الوسيلة، إذ تصل للغاية الشريفة بالوسيلة النبيلة، لتجسد مكارم الأخلاق التي بعث رسول الله ليتممها، وأخلاقها لا تتجزأ، فالحرام فيها حرام في حق المسلم وغير المسلم، والحلال حلال في حق المسلم وغير المسلم، فالسرقة حرام من المسلم وغير المسلم، والظلم حرام للمسلم وغير المسلم، والزنا حرام بالمسلمة وغير المسلمة، وهي كذلك في السلم والحرب سواء.
- طبيعتها
هي دولة مدنية مرجعها الإسلام، يُحكم فيها بشرع الله، لا بشرع الحاكم، ولا أنصاره، ولا حركته، ولا حزبه، والحلال بين والحرام بين، والأمر لا يحتاج إلى البلبلة التي يثيرها العلمانيون افتراء بأن حكم الإسلام كما حكم الكنيسة في عصور أوروبا الوسطى، فالسلطة في دولة الإسلام تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى، الحاكم فيها مسؤول أمام الأمة، وهو فيها مقيد غير مطلق، ولا يطاع إلا فيما يوافق الشرع، فلا طاعة إن أمر بمعصية، وإذا تعارض أمره مع أمر الله قدمت الرعية أمر الله على أمره، وقومه الناس ونصحوا له حتى يدين لله بما شرع من الحلال والحرام، فيمتثل للحق أو يُعزل.
- موقفها من الديمقراطية
إن كان جوهر الديمقراطية أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس رغم أنوفهم إلى اتجاهات ومناهج اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضوها كان جزاؤهم التنكيل والتشريد.. إن كان هذا جوهرها فهذا يتفق مع روح الإسلام وجوهره الذي رفض إمامة الرجل لقوم يكرهونه، وشن حملة في غاية القسوة والقوة على الحكام الظالمين والطغاة. أما عن أساليبها، مثل الانتخابات والاستفتاءات، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وكفالة الحريات بكل أشكالها للأفراد والمؤسسات، واستقلال القضاء وغير ذلك، فالإسلام لا يرفض هذه الآليات والوسائل؛ إذ هي تيسر على الناس مهمتهم في اختيار الحاكم وممثلي الأمة، فالإسلام لا يعارض آليات الديمقراطية، وإنما يعارض ويرفض فلسفتها القائمة على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وعزل الدين عن الحياة.
موقفها من تعدد الأحزاب السياسية
في رأي القرضاوي لا مانع من وجود أكثر من حزب سياسي داخل الدولة، إذ المنع الشرعي يحتاج لنص، ولا نص، بل إن التعددية الحزبية قد تكون ضرورة، حيث تمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وحين نتكلم عن تعدد الأحزاب فإننا لا نقصد بها تعدد الأشخاص، وإنما تعدد الأفكار والمناهج والسياسات كما تعددت المذاهب في مجال الفقه. لكن لابد من شرطين أساسيين لتكتسب هذه الأحزاب شرعيتها: الأول أن تعترف بالإسلام عقيدة وشريعة ولا تعاديه أو تتنكر له، والثاني ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام وأمته، أيا ما كان اسمها وموقعها، فلا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية أو يطعن في الأديان عامة والإسلام خاصة، أو يستهين بمقدسات الإسلام أو شريعته وأحكامه.