وقف الغزالي عمره لمحاربة الاستبداد باسم الإسلام بكل ما لديه من طاقة، يعلم الناس ما يفعله الاستبداد بأنفسهم ومجتمعاتهم، ولهذا كان كتابه الشهير “الإسلام والاستبداد السياسي” من أوائل كتبه، ثم كتب “الفساد السياسي في المجتمعات المسلمة”، وقلما يخلو كتاب من كتبه من ذكر الاستبداد ومساوئه، وما يجره على الأمم من البلاء والخراب في كل جوانب حياتها. فقد اعتبر الشيخ الاستبداد عدو الإنسانية، “فلا حرية حيث يكون استبداد سياسي، ولا دين حيث يكون استبداد سياسي، ولا حضارة حيث يكون استبداد سياسي”، بل سمى الاستبداد “طاعوناً”، ورآه: “تهديماً للدين وتخريباً للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعاً”.

يقول رحمه الله: "كنت أكره الاستبداد قبلا، كرجل خلقه ربه حراً، فلما لعقت مراراة القلة والاستضعاف والاختطاف، ووجدت زمامى يلعب به السفهاء كما كان صبية مكة يلعبون قديماً بالحبل الذى ربط فيه بلال بن رباح رسبت مشاعر الحقد فى أعماق قلبي وفهمت كيف أن اندحار الأعداء يشفي صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم[1]. ولهذا يكتب الغزالي، مؤكداً، أن المسلمين تعلموا من دينهم أن “الحكام -ملوكاً كانوا أم رؤساء-أُجراء لدى شعوبهم، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية، ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة، ومن رضا السواد الأعظم بها، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرهاً، أو يسوس أمورها استبداداً”، وأن “الشورى أساس الحكم، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها، وأشرف الأساليب ما تمخض لله، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغش وحب الدنيا”.

الإسلام والاستبداد ضدان

تناول الغزالي قضية علاقة الإسلام بالاستبداد، وما روجه كثير من المستشرقين وأتباعهم من تسويغه للاستبداد تحت دعاوى زائفة كثيرة، مبيناً أن في هذا افتراء على الله ودينه كبيرا، وابتعادا عن الحقيقة والتاريخ لا مثيل لهما. فيرى أن “الإسلام أولى الأديان بمطاردة الاستبداد والاستعباد بكل معانيه، ومحاربته بكل ما في اليد من أداة، ولم ترَ في الحياة شريعة قاومت الاستبداد والاستعباد كما قاوم الإسلام، ولا تعرف ديناً صبّ على الاستبداد والمستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بمناوأتهم والانقضاض عليهم كالإسلام. والإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، ”فتعاليم الدين تنتهي بالناس لعبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء، ولا يمكن أن يعيش الاستبداد هانئاً أو مستريحاً في بيئة ينتعش فيها الإسلام؛ لأن الثاني عدو الأول اللدود”[2]. ويرى أن الاستبداد السياسى الذي وقعت الشعوب المسلمة فريسة له من أمد طويل وظلت إلى اليوم ترسف فى قيوده، ليس مرده إلى أن الإسلام نقصته عناصر معينة، فأصيب معتنقوه بضعف فى كيانهم كما يصاب المحرومون من بعض الأطعمة بلين فى عظامهم أو فقر فى دمائهم، كلا ففى تعاليم الإسلام وفاء بحاجات الأمة كلها وضمان مطمئن لما تشتهى وفوق ما تشتهى من حريات وحقوق، إنما بطشت مخالب الاستبداد ببلادنا وصبغت وجوهنا بالسواد، لأن الإسلام خولف عن تعمد وإصرار[3].

ويشير إلى أن تنظيف العالم الإسلامي من الغرور والغش والادعاء، ومن السرقة والنهب والاستعلاء، كفيل باجتثاث جذور الاستبداد وإراحة الدين والدنيا من ويلاته[4]. ولفت الغزالي أنظار المسلمين، كذلك، إلى خطورة جمود الفكر السياسي، وآثاره الوخيمة على الأوضاع السياسية في الأمة وابتلائها بالاستبداد المقيم، مؤكداً أن” الفكر السياسي عند جمهرة المتدينين يتّسم بالقصور البالغ، إنهم يرون الفساد ولا يعرفون سببه، ويقرؤون التاريخ ولا يكشفون عبره، ويقال لهم كان لنا ماضٍ عزيز، فلا يعرفون سرّ هذه العزة، وانهزمنا في عصر كذا، فلا يدركون سبب هذه الكبوة، ويشعرون أن العالم الغربيَّ بزغ نجمه، فلا يدرسون ما وراء هذا البزوغ”. ويرجع الغزالي أسباب ذلك إلى انتشار “أقوال طائفة من المتحدثين عن الإسلام”، يصورون أسلوبه في الحكم بشكل غامض، ويقفون مكتوفي الأيدي في الواقع العملي أمام الافتيات المستمر على سلطان الأمة.

صناعة المستبدين

يرى الشيخ، رحمه الله، أن صناعة الاستبداد تبدأ من فقيه جاهل أو طامع، ومنافق عليم اللسان لا هم له إلا دنيا يحصل ملذاتها، وحاكم مريض نفسياً يرى رفعته في ضعة أمته، وتكمن سعادته في شقاء كل من حوله، فالويل لأمة يكون الحكم فيها شهوة مريض بجنون العظمة أو شهوة مسعور باقتناء المال، ففي هذه البيئات الموبوءة تتدهور قيم الشعوب وتنحط أخلاقها، وتصبح قطيعاً يسهل على أي جاهل يمتلك القوة والمال والأتباع من المنتفعين والمنافقين أن يسوسهم ويسومهم سوء العذاب. ويقول الشيخ: عندما تفسد الدولة بالاستبداد وعندما تفسد الأمة بالاستعباد، يعتبر الرياء هو "العملة" السائدة وقاعدة تقرير الأمجاد لطلاب المجد الكاذب، وتقريب المنفعة لطلاب المنفعة الزائلة، وهو حينئذ خلق السادة والعبيد[5]. ويقول: "لقد تتبعت أقوال طائفة من المتحدثين عن الإسلام فوجدت تصورهم لأسلوبه فى الحكم غامضاً وآذاني أشد من ذلك أنهم وقفوا مكتوفى الأيدى أمام الافتيات المستمر على سلطان الأمة كأن ما يحدث تحت سمعهم وبصرهم خارج عن الدائرة التى يختص الدين بالفتوى فيها"[6].

خصائص الاستبداد

ويبرز الغزالي أهم خصائص الاستبداد في:

1. كبرياء الحاكم وتعاليه.

2. الرياء بين السادة والأتباع.

3. تبذير.. من أقوات الشعوب.

4. كره الحاكم الشديد لحرية النقد والتوجيه.

5. أسلوبه الشائن في إهانة الكفايات وترجيح الصغار وتكبيرهم تبعا لمبدئه العتيد: أهل الثقة أولى من أهل الكفاءة. ومن هم أهل الثقة؟ أصحاب القدرة على الملق والكذب، اللاهثون تحت أقدام السادة تلبية لإشارة أو التقاطاً لغنيمة. وهو–دائماً- بيئة خصبة للرياء والملق والعبودية، ووسيلة فذة لتكبير الصغار وتصغير الكبار، وغمط الكفايات ورفع التفاهات.

الاستبداد والاستعمار توأمان

يقول الغزالي -رحمه الله- في مطلع كتابه ”الإسلام والاستبداد السياسي": إن بلاد الإسلام في هذا العصر -وفي العصور القريبة السابقة- تحمل كفلين من العذاب: أحدهما من وطأة الغرب المعسكر بقواته الكثيفة من المحيط إلى المحيط، والآخر من غدر الحكام المشايعين له، ومن أوضاعهم الملفقة وفسادهم العريض[7]. ولهذا، فهو يربط ربطاً مباشراً، بين القضاء على الاستعمار والقضاء على الاستبداد، فيقول: “نحن نعرف أن للاستعمار فكَّين حادّين يتركب منهما فمه: الفساد الكامن في الداخل: الاستبداد وتوابعه، والعدوان الوافد من الخارج.. وبين الفكين تدار الرحى وتتهشم الضحايا، وضربة قاصمة لأحد الفكين تنقذ آلاف المعذبين”. لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد فى أمة ما جريمة غليظة، وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ولا يستحق ذرة من التأييد، إلا إذا كان معبراً عن روح الجماعة ومستقيماً مع أهدافها، ومن ثم فالأمة وحدها هى مصدر السلطة، والنزول على إرادتها فريضة والخروج عن رأيها تمرد، ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك[8]. إنى لا أعرف ديناً صب على المستبدين سوط عذاب وأسقط اعتبارهم وأغرى الجماهير بمناوأتهم والانتفاض عليهم كالإسلام. ولا أعرف مصلحاً أدب رؤساء الدول وكبح جماحهم وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء فى نفوسهم كما فعل نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم[9].

خاتمة 

لقد نذر الغزالي، رحمه الله، قلمه وعمره للدعوة للإسلام وبيان حقائقه للمسلمين وللناس أجمعين، ولتخليص نفوس المسلمين أفراداً ومجتمعات ومؤسسات من الاستبداد، وإذا كان ثمة موضوع رئيسي في أعمال الغزالي، فهو تحديداً: تحرير الروح الإنسانية والإسلامية من أغلال الاستبداد.

 

[1] محمد الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسى، دار نهضة مصر، الطبعة السادسة، أكتوبر 2005، ص16

[2] المصدر السابق، ص17

[3] المصدر السابق، ص32

[4] المصدر السابق، ص33

[5] المصدر السابق ص43

[6] المصدر السابق ص18

[7] المصدر السابق ص14

[8] المصدر السابق، ص59

[9] المصدر السابق ص69