الاستبداد من وجهة نظر مدرسة الاعتدال (2) يوسف القرضاوي

يمثل الشيخ يوسف القرضاوي أحد الرموز الفكرية الهامة التى عانت -ومازالت- نتيجة لمواقفها وحربها الفكرية المستمرة تجاه الاستبداد والمستبدين، فقد اشتهرت مدرسة الوسطية والاعتدال مع الشيخ يوسف القرضاوي، بإرساء فقه الأولويات والموازنات، وفقه المقاصد.. وفي هذا السياق هاجم القرضاوي الاستبداد وأتباعه من علماء السلطة، وكانت مواقفه وخطبه الثورية فى ميدان التحرير خير شاهد.

وبلغ نقد الشيخ للاستبداد أن جعله من علامات الساعة فيقول فى مقال له تحت عنوان الاستبداد السياسي من علامات الساعة “فإن من بين علامات الساعة الاستبداد السياسي، وأن يتولى الأمور من لا حق له فيها، ومن ليس أهلا لها، وأن يستولي على مقدرات الشعوب، وأن يكون السفلة هم أعالي الناس، وإن أخطر ما يصيب الأمة الانحراف في الحكم، فلا يُحكم بشرع الله، وأن يولي الحكام وجوههم شطر أعدائهم بدلا أن يولوها شطر ربهم، ويتبع هذا ضياع للدين والدنيا معا، وإن كان الاستبداد السياسي ليس وليد الساعة، ولكنه سيكون بكثرة كاثرة في آخر أيام الدنيا.”(1)

الاستبداد السياسي ماهيته ومخاطره

فسر القرضاوي الاستبداد السياسي على أنه: انفراد فئة معينة بالحكم والسلطان، برغم أنوف شعوبهم، فلا همّ لهم إلا قهر هذه الشعوب حتى تخضع، وإذلالها حتى يسلس قيادها، وتقريب الباحثين بالباطل، وإبعاد الناصحين بالحق.(2)

ويرى أن الاستبداد جزء من الطغيان، ويعني أن ينفرد الحاكم بالأمر دون أن يأخذ رأي الناس أو يشاور أهل التخصص، فإذا جاء في ذهنه أمر نفذه، وقام به وفرضه على الخلق.

والقرآن ذكر لنا أسماء كثيرة -غير الطغيان- للاستبداد، أو تؤدي إليه، أو بينهما علاقة وثيقة، ومن ذلك:

- الظلم: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. 

- الجبروت: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] فالجبابرة في الأرض لا بد أن يخيبوا ولن ينجحوا أبدا.

- الاستكبار أو المستكبرون: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23].

- الإفساد أو المفسدون: فالجبروت يؤدي إلى الطغيان، والطغيان يؤدي إلى الفساد، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 6-12] فجمع بين الطغيان وكثرة الفساد {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}.(3)

ويرى القرضاوي أن الاستبداد خطر على الأمة في فكرها وفي أخلاقها، وفي قدرتها على الإبداع والابتكار، ولسنا في حاجة إلى أن نعيد ما كتبه، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" عن مضار الاستبداد، وآثاره في حياة الفرد، وحياة الجماعة، وإن كان الاستبداد اليوم أشد خطرا من ذي قبل، لما أصبح في يد السلطة من إمكانات هائلة تستطيع بها أن تؤثر على أفكار الناس وأذواقهم وميولهم، عن طريق المؤسسات التعليمية والإعلامية والتثقيفية والترفيهية والتشريعية، وجلها -إن لم يكن كلها- في يد الدولة.

ويشير إلى أن الإسلام هو أول شيء يصيبه الأذى والضرر البالغ من جراء الاستبداد والطغيان، وتاريخنا الحديث والمعاصر ينطق بأن الإسلام لا ينتعش ويزدهر، ويدخل إلى العقول والقلوب، ويؤثر في الأفراد والجماعات، إلا في ظل الحرية التي يستطيع الناس فيها أن يعبروا عن أنفسهم، وأن يقولوا: (لا) و(نعم) إذا أرادوا ولمن أرادوا، دون أن يمسهم أذى أو ينالهم اضطهاد.(4)

مخاطر الاستبداد

يبين الشيخ مخاطر الاستبداد، فالاستبداد ليس مفسدًا للسياسة فحسب، بل هو كذلك مفسد للإدارة، مفسد للاقتصاد، مفسد للأخلاق، مفسد للدين، مفسد للحياة كلها.. هو مفسد للإدارة، لأن الإدارة الصالحة هي التي تختار للمنصب القوي الأمين، الحفيظ العليم، وتضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتثيب المحسن وتعاقب المسيء، ولكن الاستبداد يقدم أهل الثقة عند الحاكم، لا أهل الكفاية والخبرة، ويقرب المحاسيب والمنافقين، على حساب أصحاب الخلق والدين، وبهذا تضطرب الحياة وتختل الموازين، وتقرب الأمة من ساعة الهلاك، كما أشار إلى ذلك الحديث الصحيح: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".(5)

عاقبة الطغاة في الدنيا والآخرة

يرى الشيخ أن هؤلاء الناس (الطغاة) قد انسدت آذانهم وأغلقت عقولهم وقلوبهم وضمائرهم فلم يعودوا يحسون شيئاً ولكن الله سبحانه وتعالى وعقابه لهم بالمرصاد، فالله تعالى لا يغفل عن هؤلاء أبداً، فهو سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6-13] فربنا يدخر لهم سوط عذاب يأتيهم في وقت معين من حيث لا يحتسبون.

مواجهة الطغيان واجب على المجتمعات الإسلامية

وبين الشيخ أنَّه من الواجب على المجتمعات التي تعيش في ظل حكم الطاغية أن تتعاون لتقف ضد الطغيان والجبروت، فلا يستطيع الفرد وحده أن يقاوم الطغاة خاصة أنهم يمتلكون قوة مادية وعسكرية وبشرية تمتد بالأذى لكلّ من يرفع صوته ضدهم.

وأشار إلى أنَّ الشّارع الحكيم يريد للناس أن يعيشوا حياة طيبة سعيدة، يحس كل منهم بنفسه وبغيره لا يظلمه أحد ولا يطغى عليه أحد ولا يستبد بأموره أحد، ولهذا كان سعي الإسلام إلى الحاكم العادل، وإقامة العدل في الأرض؛ وبعث الله تعالى الأنبياء جميعا لإقامة العدل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25].

وأوضح الشيخ أنَّ هذا هو الهدف الأكبر لكل الرسالات أن يقوم الناس بالقسط فإذا ذهب القسط والعدل وبدأ أناس يفرضون أنفسهم على الناس ويتصرّفون حسب أهوائهم لا حسب الحق والشرع والمصلحة والأخلاق، فهؤلاء هم الطغاة، الذين يجاوزون الحد في العصيان وفي الظلم.

كيف نواجه الطغيان؟

وقال: علينا ألا نحارب الطغيان بطغيان، بل علينا أن نحاربه بالعدل ونحارب الاستكبار في الأرض بالحق فلا نريد أن نكون طغاة مثلهم {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس:32] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].

المستبد العادل

واستبعد القرضاوي فكرة أن يكون العادل مستبداً، وقال: لا يمكن أن يكون العادل مستبداً، لذلك لا يجوز أن نقول كما زعموا أنه لا ينهض بالشرق إلا مستبد عادل، فالشرق يحتاج إلى حاكم عادل، يستطيع أن يقيم الحياة الطيبة للشعب، وهو الحاكم القوي وليس المستبد، فالمستبد هو الذي ينفرد بالسلطة ولا يشارك الشعب ولا يسأل أهل الرأي. (6)