عاش الإمام أبو الأعلى المودودي "رحمه الله" في بيئة دينية مضطربة تتنازعها مجموعة من الأفكار المتناقضة، فهي من جانب يشتهر فيها الاهتمام البالغ بدراسة كتب الحديث والتعمق في معرفة رجاله وطرق أسانيده، ومن جانب آخر ينتشر فيها الطرق الصوفية بما تحمل من روحانية ومن بدع وخرافة في الوقت نفسه.

وقد أدرك الإمام المودودي أن التراجع الحضاري الذي تشهده الأمة يرجع إلى عاملين أساسين:

أحدهما داخلي (وهو فكر عصور الانحطاط وتخلف العقل المسلم)، والآخر خارجي (وهو فكر الذوبان والتبعية الثقافية الغربية).

لذلك اشتبك في رؤيته للتجديد بتيارين متناقضين: الأول أنصار مدرسة الجمود والانغلاق والفكر الذي يشوبه الكثير من البدع والخرافات، والثاني نصير الفكر الحداثي ودعوات الذوبان والاستلاب الحضاري والفكري.

وكان المودودي يدرك تماماً مدى خطورة هذين التيارين على الأمة لأنه يفقد الشريعة الإسلامية أهم سماتها وهي المرونة ومسايرة الزمان، ويظهرها كشريعة مشوهة غير قادرة على مواكبة التطورات والمتغيرات العصرية.

مفهوم التجديد

يبين المودودي أنه لابد لمن أراد أن يبحث في حقيقة التجديد ونوعيته من أن يحيط خبراً بما قد جرى في التاريخ من النزاع الفكري بين الإسلام والجاهلية، ذلك بأن التجديد في حقيقته عبارة عن تطهير الإسلام من أدناس الجاهلية وجلاء ديباجته حتى يشرق كالشمس ليس دونها غمام، فالمرء لا يمكنه أن يعرف حقيقة التجديد ولا أن يتناول أعمال أحد المجددين بالنقد مادام لم يتضح له أمر هاتين القوتين المتصارعتين وما قد كان ولايزال يجرى بينهما من النزاع (1)

وعرّف أبو الأعلى المودودي المجدِّد بأنه: ”كل من أحيا معالم الدِّين بعد طمسها، وجدَّد حبله بعد انتقاضه” والتجديد هو: ”إعادة أمر الدين كما كان عليه، يوم جاء من عند الله لم تعكره البدع والأهواء” وقد أراد بالطمس معالمَ الدين في جوانبه كلها، كما أنه رحمه الله لم يُلصِقْ الانتقاض بالدين، بل ألصقه بحبل الدِّين، وحبل الدِّين وسيلة التمسك به من شعائر، ومشاعر، ونُسُك، وارتباط الوجدان بالمشاهدة، والمراقبة، والصدق، والتوكل، واستمساك بالعروة الوثقى، توجهاً بالنفس، وتوجيهاً بالدعوة.

الحاجة إلى المجددين

يرى المودودي أن تطهير الإسلام من أدران هذه الأنواع الثلاثة من الجاهلية (الجاهلية المحضة، جاهلية الشرك، الجاهلية الرهبانية) وجلاء ديباجته من جديد هو الأمر الذي أصبح الدين لأجله في حاجة إلى المجددين(2).

ويشير  إلى أن الدين الإسلامي كان –ولايزال- في كل عصر في حاجة إلى رجال أقوياء يأتون ويسددون خطى الزمان ويوجهون مسيره إلى الإسلام، سواء أكان عملهم في ذلك محيطاً شاملاً أو كان على بعض نواحي الأمر مقتصراً وهؤلاء هم الذين يدعون بـ"المجددين" (3)

الفرق بين التجدد والتجديد

يتناول المودودي الفرق بين التجدد والتجديد مشيراً إلى أن الناس في زماننا قد ألفوا أن لايفرقوا بين التجدد والتجديد، فيسمون لسذاجتهم كل متجدد من بينهم مجدداً، ظناً منهم أن كل من جاء بطريق جديد ثم أمضاه بشيء من القوة والعزم فهو المجدد، ويجودون بهذا اللقب خصوصاً على الذي يبادر لإصلاح حال الأمة المسلمة من الجهة المادية، فيخرج بمسالمته للجاهلية الحاكمة في زمانه خلطاً جديداً من الإسلام والجاهلية، ويصبغ الأمة بصبغة الجاهلية الكاملة التي لا تبقي من خصائصها إلا الاسم، والحال أن أمثال هذا لا يكونون مجددين بل متجددين، ولا تكون مهمتهم تجديد الدين بل التجدد في الدين وشتان بينهما.

ذلك أن التجديد لا يكون عبارة عن التماس الوسائل لمسالمة الجاهلية ولا هو عبارة عن إعمال خلط جديد من الإسلام والجاهلية، بل التجديد في حقيقته هو تنقية الإسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية ثم العمل على إحيائه خالصاً على قدر الإمكان، ومن هنا يكون المجدد أبعد ما يكون عن مصالحة الجاهلية ولا يكاد يصبر على أن يرى أثراً من آثارها في أي جزء من الإسلام مهما كان تافهاً!.(4)

فقد ربط المودودي هنا التجديد بضرورة تنقية الأصول من الشوائب وإعادة طرحها بشكل يوافق المتغيرات الحديثة ولكن برؤية ومنهاج إسلامي واضح بعيداً عن الخلط بين الإسلام والجاهلية.

تعريف المجدد

يشرح المودودي الصفات التي يجب أن يكون عليها المجدد، فالمجدد لا يكون نبياً، ولكنه يكون في طبعه ومزاجه أقرب إلى مزاج النبوة، ومن الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدد: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج، والقدرة النادرة على تبين سبيل القصد بين الإفراط والتفريط ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد من تأثير الأوضاع الراهنة والعصبيات القديمة الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف، والأهلية الموهوبة للقيادة والزعامة، والكفاءة الفذة للاجتهاد ولأعمال البناء والإنشاء، ثم كونه –مع ذلك كله- مطمئناً قلبه بتعاليم الإسلام وكونه حقاً في وجهة نظره وفهمه وشعوره، يميز بين الإسلام والجاهلية حتى في جزئيات الأمور ويبين الحق، ويفصله عن ركام المعضلات التي أتت عليها القرون فهذه هي الخصائص التي لا يمكن أن يكون أحد مجدداً بدونها، وهي هي الصفات التي تكون في الأنبياء والمرسلين مكبرة مضاعفة! (5)

خطوات عمل التجديد

يحدد المودودي تسع خطوات يجب أن يقوم بها المجدد لتناول فكرته التجديدية وطرحها فيرى أنه يلزم لعمل التجديد هذه النقاط:

أولاً: تشخيص أمراض البيئة التي يعيش فيها المجدد تشخيصاً صحيحاً.

ثانياً: تدبير الإصلاح وبعبارة أخرى تعيين مواضع الفساد التي يجب أن تعالج.

ثالثاً: اختبار المجدد نفسه وتعيينه حدود عمله، وتقديره قوته ومقدرته، واختياره الناحية التي يرى نفسه قادراً على إصلاح الأمر منها.

رابعاً: السعي لإحداث الانقلاب الفكري والنظري، أي تغيير أفكار الناس وطبع عقائدهم ومشاعرهم ووجهة نظرهم الخلقية بطابع الإسلام، وإصلاح نظام التعليم والتربية، وإحياء العلوم والفنون الإسلامية، وبالجملة بعث العقلية الإسلامية الخالصة من جديد!

خامساً: محاولة الإصلاح العملي، وذلك بإبطال التقاليد الجاهلية وتزكية الأخلاق، وإشباع النفوس حباً لاتباع الشريعة، وترشيح رجال يصلحون أن يكونوا زعماء من الطراز الإسلامي.

سادساً: الاجتهاد في الدين، والمراد به أن يفهم المجدد كليات الدين ويتبين اتجاه الأوضاع المدنية والرقي العمراني في عصره، ويرسم طريقا لإدخال التغيير والتعديل على صورة التمدن القديمة المتوارثة.

سابعاً: الكفاح والدفاع، ومعناه مناضلة القوة السياسية الناهضة لاستئصال الإسلام وكبته، وكسر شوكتها تمهيدا لسبيل لنهوض الإسلام وانبعاثه.

ثامناً: إحياء النظام الإسلامي، وذلك بأن تنتزع من أيدي الجاهلية مقاليد السلطة، وتعاد إقامة الحكم فعلاً على النظام الذي سماه الشارع عليه السلام بالخلافة على منهاج النبوة.

تاسعاً: السعي لإحداث الانقلاب العالمي ومعناه أن لا يكتفي بإقامة النظام الإسلامي في قطر واحد أو في الأقطار التي يقطنها المسلمون فحسب، بل تبعث حركة عالمية قوية تكفل انتشار الدعوة الإسلامية الإصلاحية والانقلابية في عامة سكان هذه الأرض، فتكون حضارة الإسلام هي الحضارة الغالبة في الأرض (6)

أسباب فشل حركة التجديد

يرى المودودي أن الفشل والهزيمة التي أصيبت بها حركة تجديد الإسلام في وجه الجاهلية الغربية نتلقى منها دروساً وعبراً:

أولها: أنه لا يكفي لتجديد الدين في زمن من الأزمان إحياء العلوم الدينية وبعث الولوع باتباع الشريعة فحسب، بل يلزم لذلك إنشاء حركة شاملة جامعة تشمل بتأثيرها جميع العلوم والفنون والأفكار والصناعات ونواحي الحياة الإنسانية جميعاً، وتستخدم ما أمكن من القوى لإحكام أمر الإسلام.

الدرس الثاني: هو أن عمل التجديد في هذا العصر الحديث يتطلب قوة اجتهادية جديدة، وللقيام بهذا العمل لا يغني مجرد البصيرة الاجتهادية التي نجدها في مآثر المجتهدين والمجددين، وذلك أن الجاهلية الجديدة قد انبرت بما لا يعد ولا يحصى من الوسائل المبتكرة وأحدثت ما لا حد له ولا حصر من المسائل الجديدة، وبعد الأخذ من الكتاب والسنة يتطلب التجديد –لبسط محجة العمل والسعي بمقتضى هذا الزمن- قوة اجتهادية بنفسها، لا تتقيد بمآثر أحد بعينه من المجتهدين الماضين ولا تنحصر في طريقته ومنهاجه دون غيره، وإن اقتبست من كلهم ولم تتحام أحداً منهم (7)