بالرغم من النصوص الشرعية والكتابات العديدة التى تناولت حقوق غير المسلمين فى المجتمع المسلم إلا أن رؤية الإمام أبو الأعلى المودودي لها أهمية خاصة كونها تنبع من رجل عاش فى مجتمع متعدد الأديان وكذلك نظراً لأنه من أوئل من أطلق لفظ مفهوم "الحاكمية" فيرى المودودي أنه  “سيكون لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة، والرأي والتفكير، والاجتماع، والاحتفال، ما هو للمسلمين سواء بسواء. وسيكون عليهم من القيود والالتزامات في هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم. فسيجوز لهم أن ينتقدوا الحكومة وعمالها حتى ورئيس الحكومة نفسه بحرية في ضمن حدود القانون. سيكون لهم من الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين لنقد مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين.”

أصناف غير المسلمين في دولة الإسلام وحقوقهم 

ينقسم غير المسلمين في الدولة الإسلامية إلى ثلاثة أصناف، أولهم الذين يدخلون في كنف الدولة الإسلامية بعقد أو صلح أو معاهدة، ثانيهم المغلوبون بعد هزيمة حربية وفتحت بلادهم عنوة، ثالثهم المنضمون إلى الدولة الإسلامية بطريق غير الصلح أو الحرب، ولكل صنف من هؤلاء حقوق قد تختلف عن الصنف الآخر، لكن في دولة الإسلام حقوقا عامة لكل أهل الذمة، وهي التي نحن بصددها في تقريرنا هذا.

الحقوق العامة لأهل الذمة

حفظ النفس:

دم الذمي في الإسلام كدم المسلم، فإن قتل مسلم أحدا من أهل الذمة اقُتص منه له، وقد حدث ذلك في زمان رسول الله، وفترة خلافة عمر  بن الخطاب، فأمر رسول الله بقتله، وسلمه عمر لأولياء دم المقتول فقتلوه، وفي خلافة علي قامت الحجة على مسلم بقتل ذمي، فأمر بالقصاص منه، فلما جاء أخو المقتول عفا عنه ورضي بالدية، وقال علي يومها "من كان له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا، وأموالهم كأموالنا".

المساواة أمام القانون الجنائي

إن القانون الجنائي في الدولة الإسلامية يتساوى فيه المسلم وغير المسلم، فما يُعاقب به المسلم على ما يأتي من الجرائم، يُعاقب به الذمي أيضا، فالسارق تقطع يده سواء كان مسلما أو ذميا، ويقام حد القذف والزنا على كل منهما، إلا الخمر فإن أهل الذمة قد استثنوا من حدها في الإسلام.

المساواة أمام القانون المدني

يتساوى المسلم وغيره في الحقوق المدنية، ويفرض على الذمي ما يفرض على المسلم من الحدود والقيود في القانون المدني، فالطرق التجارية المحظورة على المسلمين محظورة على الذميين، والربا عليهما محرم، ولا يستثنى الذميون إلا من أحكام الخمر والخنزير، فلهم أن يصنعوا الخمر ويبيعوها ويشربوها، وأن يُربُوا الخنازير ويأكلوها ويبيعوها، وإن أتلف أحد من المسلمين خمر ذمي أو خنزيره كان عليه غرامة ما أتلف.

حفظ الأعراض

لا يجوز إيذاء الذمي باليد ولا اللسان، كما لا يجوز شتمه ولا ضربه ولا غيبته، مثله في ذلك مثل المسلم.

ثبوت الذمة

إن عقد الذمة يلتزم به المسلمون لزوما أبديا، فليس للمسلم أن ينقض عهد الذمة، مهما ارتكب الذمي من كبائر الأفعال، كالامتناع عن الجزية، وقتل المسلم، وسب النبي، والزنا بمسلمة، كل تلك الأفعال يُعاقب عليها، لكنه لا يعد بها خارجا على الدولة، ولا يخرج بها من عقد الذمة، لكن لغير المسلم أن ينقضه متى شاء، ويلتزم به متى شاء، ولا يخرجه من العقد إلا أحد أمرين، أن يخرج من دار المسلمين إلى دار حرب، أو أن يخرج علنا من دولة الإسلام، ويبث الفتنة في أرجاء البلاد.

الأمور الشخصية

تُقضى أمور أهل الذمة الشخصية بحسب قانونهم الشخصي، فما هو محظور علينا في قوانين أحوالنا الشخصية، إن كان مباحا عندهم قضت المحكمة بجوازه لهم، عاملة بقانونهم، فمثلا لو عندهم استحلال النكاح بغير الشهود أو النكاح بلا مهر، أو في أثناء العدة، أو نكاح المحارم، فلا يحرم عليهم هذا، وإنما يجاز لهم بالاحتكام لقانونهم، وقد كتب الخليفة عمر بن عبد العزيز، إلى الإمام الحسن البصري مستفتيا "ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وماهم عليه من نكاح المحارم، واقتناء الخمور"؟ فأجابه الحسن قائلا "إنما بذلوا الجزية ليُتركوا وما يعتقدون، وإنما أنت متبع ولا مبتدع، والسلام".

الشعائر الدينية

لأهل الذمة الحرية التامة في إقامة شعائرهم الدينية، وتقاليدهم القومية، في مواضعهم وقراهم الخاصة، فلا يُمنعون من بيع الخمور والخنازير وضرب الناقوس في قرية أو موضع ليس من أمصار المسلمين، ولو كان فيه بعض أهل الإسلام، وإنما يكره هذا في أمصار المسلمين، التي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود، أما إظهار الفسق مثل الزنا والفواحش المحرمة، فإنهم يمنعون من ذلك في أمصارهم أو أمصار المسلمين.

المعابد

لا يجوز أن يتعرض أحد لمعابد وكنائس غير المسلمين، وإذا انهدم منها معبد كان لهم الحق أن يجددوه، دون أن يحدثوا في أمصار المسلمين معابد جديدة، أما المواضع التي ليست من أمصار المسلمين، فلهم أن يقيموا فيها معابد وكنائس جديدة.

التسامح في أخذ الجزية والخراج

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد على أهل الذمة في الجزية والخراج، والحث على الرفق بهم في كل حال، وألا يُكلفوا ما يطيقون، ولا يجوز أن يُنادى على أملاكهم للبيع عوضا عن الجزية، وقد كتب عليٌ رضي الله عنه لعماله، "لا تبيعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة، شتاء أو صيفا، ولا رزقا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدا منهم سوطا واحدا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا من شيء من الخراج، فإنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك"، ودوام الامتناع عن دفع الجزية مع القدرة على ذلك، عقابه أن يحبس الممتنع تأديبا ويرفق به حتى يُؤدي ما عليه، أما من صار منهم فقيرا فإنه يُعفى من الجزية، ويُجرى له عطاء يكفيه من بيت مال المسلمين، وإن كان قعيدا أُعِيل، وإن مات ذميا وكان عليه جزية لا تُؤخذ من ورثته.

الضريبة التجارية

تضرب الضريبة التجارية على أموال السلمين والذميين سواء بسواء، وقد حدث في فترة أن وصلت الضريبة 5% على مال الذمي، و2.5% على مال المسلم، وبرر الفقهاء ذلك حينها بانشغال أكثر المسلمين بالجهاد والدفاع عن الوطن حينها، بينما اكتفى الذميون بالجزية، وتفرغوا للتجارة حتى صارت أغلب التجارات في أيديهم وملكهم، فكان القرار تشجيعا لتجار المسلمين، وعمل نوع من التكافؤ المجتمعي.

الإعفاء من الخدمة العسكرية

أُعفي أهل الذمة من الخدمة العسكرية، مقابل جزية فرضت على القادرين منهم على القتال، وجعلت واجبا على المسلمين، حيث لم يكن يقاتل عن دولة الإسلام إلا المؤمنون بمبادئها لحفظ دولتهم، ولما اجتمعت جموع الروم للحرب على دولة الإسلام، واضطر المسلمون لمغادرة البلاد المفتوحة في الشام، أمر أبو عبيدة رضى الله عنه، الأمراء برد الجزية إلى جميع أهل الذمة، ونادى فيهم أننا الآن في معركة قوية، ولم نستطع حمايتكم حتى يقضي الله بيننا وبين عدونا، فلما رأى أهل الذمة ذلك من المسلمين، قالوا والتوراة لن يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، ولولاية المسلمين وعدلهم أحب إلينا من الظلم والغشم.

الاستقلال الثقافي

يجوز أن يُؤلف لغير المسلمين مجلس نيابي مستقل، تكون عضويته وحق انتخابه لغير المسلمين فقط، ليتمكنوا بواسطته من قضاء حاجاتهم الاجتماعية، ومن عرض وجهة نظرهم في شئون الدولة الإدارية، واقتراح القوانين التي تتعلق بشئونهم وأحوالهم الشخصية، وعرض شكواهم واعتراضاتهم ومقترحاتهم فيما يتعلق بنظام الحكومة، وغير ذلك مما هو حق عام لكل الناس في دولة الإسلام.

الحرية الفكرية

المتمثلة في الرأي والتفكير والخطابة والكتابة والاحتفال وغير ذلك، دونما تقييد أو مصادرة أو إكراه على كتابة ما يخالف قناعاتهم أو ضمائرهم، شريطة ألا يصطدم ذلك بنظام الدولة وقوانينها.

التعليم

والتعليم لهم حق أصيل، لا تُفرط فيه الدولة، ولا هم يُفرطون فيه، وليس من حق الدولة أن تكرههم على نيل التعليم الدين الإسلامي، على أن ينظموا أمر تعليمهم الديني في معاهد البلاد العامة، أو معاهدهم الخاصة.

الوظائف

لغير المسلمين الحق في جميع الوظائف الحكومية إلا المناصب الرئيسية المعدودة، ذات المنزلة الأساسية الخطيرة في نظام الإسلام المبدئي، ولن يعاملوا في ذلك بشيء من العصبية، وللأهلية والكفاءة الكلمة الأولى والأخيرة في ذلك، يسري هذا على المسلمين وغيرهم.

أعمال الكسب والمهن

كل أعمال الكسب والمهن في كل المجالات مفتوحة على مصراعيها للمسلمين وغيرهم، ولا يمتاز المسلمون عنهم بميزة، فهي حق مشاع لكل إنسان في دولة الإسلام، ولا يفرض عليهم ما لا يفرض على المسلمين من قوانين.

----------------------

المصدر: كتاب حقول أهل الذمة – أبو الأعلى المودودي