اسم الكتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث

المؤلف: الشيخ محمد الغزالي

الناشر: دار الشروق- القاهرة

الطبعة: السادسة

عدد الصفحات: 196

السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (1-4)

فهم القرآن ضرورة لفهم السنة

طبع الكتاب لأول مرة عام 1989، وجاء بتكليف من المعهد العالمي للفكر الإسلامي للشيخ محمد الغزالي بأن يؤلف كتابا ينصف فيه السنة النبوية، فرحب الشيخ بالتكليف، وسارع في تنفيذه، ورأى أن يطبع الكتاب بعيدا عن اسم المعهد حتى يتحمل هو الحملة التي ستثار ضده ممن وصفهم بــ"الأصدقاء الجهلة".

الغريب أنه صدرت من الكتاب خمسة طبعات في خمسة أشهر، وتعرض الغزالي لكثير من الشتم عقب صدور الكتاب، لكن ما أوجعه هو اتهامه بأنه يخاصم السنة النبوية، رغم أن غايته كانت تنقية السنة مما شابها، وحماية الثقافة الإسلامية من أدعياء العلم، وأن ما طرحه الكتاب هو من صميم ما طرحه الفقهاء والمحدثون.

الخطورة تأتي من أنصاف المتعلمين وأنصاف المتدينين، هكذا يذهب الغزالي في كتابه، فهؤلاء يصفون أنفسهم بأنهم أوصياء على التراث الإسلامي، وكان أولى بهم أن يهتموا بزيادة التدبر لآيات القرآن الكريم، وتوثيق الروابط بين الأحاديث النبوية ودلالات القرآن القريبة والبعيدة.

وينطلق الغزالي في الكتاب "من داخل علم الحديث نفسه لا من خارجه، ويولي اهتماما خاصة لمعايير نقد المتن، والتي يمكن من خلالها إزالة الكثير من التناقض التي رانت على رواية الحديث الشريف -وهذه المعايير قد أهملت طويلا إذ أبدى علماء الحديث اهتماما واسعا بمعايير نقد السند ولم يهتموا كثيرا بمعايير نقد المتن- محاولا في إخلاص ودأب الاستفادة القصوى من الآليات القديمة وتطويرها؛ إذ يستحيل في رأيه التجديد دون الحفر في القديم"(1).

فالشيخ الغزالي يقف على أرضية التراث الإسلامي فهو "لا يتخذ موقفا كليا بقبول الحديث أو رفضه؛ بل توجد حالات جزئية وأحاديث معينة مختلف في درجة صحتها، يُدرس كل منها على حدة"(2) ومعنى هذا أن الكتاب يتعامل مع أحاديث بعينها يناقشها في متنها وسندها على ضوء الأصل الثابت في الإسلام وهو القرآن الكريم، ومن ثم فـ"الرفض هنا ليس موقفا مبدئيا ولا انفعاليا"(3) أي أن الغزالي عندما كان يرفض حديثا في الكتاب كان ينطلق من التراث ومنهجيته مستخدما ما أهمل من أدواته ومناهجه النقدية.

"وتأتي أهمية هذا الكتاب في تناوله لأهم قضيتين في الفكر الإسلامي، هما:

- إن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت، ولا حجية للحديث النبوي إذا تعارض مع القرآن الكريم، أو خالف المحسوس، أو تنافى مع العقل السليم، أو العلم المقطوع به.

- لا سنة من غير فقه، بمعنى أن عمل الفقيه يتمم عمل المحدث، فلا يستغني المحدث عن الفقه"(4)

 في مقدمة طبعته الأولى يعلن أن هدفه من الكتاب هو أن ينهض التراث من كبوته، ويستأنف رسالته، حيث لاحظ الغزالي أن الحقائق الرئيسية في المنهاج الإسلامي لا تحتل المساحة العقلية المقرر لها، فما قيمة نهضة لا تعرف أسباب هزائمها السابقة!

ويؤكد أن السلطات المستبدة تسرها الخلافات العلمية التي لا تمسها، وحكام الجور يتمنون لو غرق الجمهور في القضايا الهامشية ولم يخرجوا منها، لكن هؤلاء المستبدين يشعرون بالقلق إذا ناقش الناس قضايا من قبيل: هل الدولة لخدمة فرد أم مبدأ؟ لماذا يكون المال دولة بين بعض الناس؟

ورأى الشيخ أن البعض يهتم بنواقض الوضوء، ويتغافل عن تزوير الانتخابات، وهو ما يعني وجود حالة من غياب السيطرة للحقائق الكبرى على الوعي الإنساني.

وهنا يطرح سؤالا مهما حول المنطق الذي عوملت به القضايا الثانوية بعدما استحوذت على الأفكار؟

فقد أدى هذا المنطق إلى إشاعة الأقوال الضعيفة والمذاهب العسرة، حتى أصبحت الصورة الذهنية المأخوذة عن الإسلام أنه جامد متزمت، فسوء عرض قضية الإسلام على الناس جعلت من بعض الممثلين الذين يعيشون في الأوحال يصنعون لأنفسهم بطولة على أساس أن الإسلام يحارب الفن.

ورغم ضيق الغزالي بالتعصب المذهبي، باعتباره قصورا في الفقه وسوءا في الخلق، إلا أنه يرى أن التقليد المذهبي أقل ضررا من الاجتهاد الصبياني في فهم الأدلة. ومن الطبيعي أن تنشأ مشكلات ثقافية واجتماعية من الفهم البسيط لنصوص الدين، وقد كان علماء الأزهر دراستهم متنوعة فهم يدرسون مذاهب القدامى ويستوعبون فكر السلف والخلف والأئمة الأربعة، ويدرسون التفاسير بمدارسها المختلفة وأقوالها المتعددة، لكنه تراجع عن دوره وأخذ في الانحدار علميا وتوجيهيا، وهو ما فتح الطريق بلا عوائق لمدعي العلم والفقه لإثارة الفتن، وهو ما ساهم في انتشار الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع.

نماذج للرأي.. والرواية

المسلمون منذ تاريخ بعيد يصونون التراث النبوي، ويحمونه من الأوهام والكذب على صاحب الرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن الافتراء على السنة النبوية هو افتراء على الدين، لذا وضع العلماء خمسة شروط لقبول الأحاديث النبوية: ثلاثة منها في السند، واثنان في المتن:

- لابد في السند من راو واع يضبط ما يسمع، ويحكيه بعدئذ طبق الأصل.

- ومع هذا الوعي الذكي لابد من خلق متين وضمير يتقي الله ويرفض أي تحريف.

- وهاتان الصفتان يجب أن يطردا في سلسلة الرواة، فإذا اختلتا في راو أو اضطربت إحداهما فإن الحديث يسقط عن درجة الصحة.

وننظر بعد السند المقبول إلى المتن الذي جاء به، أي إلى نص الحديث نفسه.

- فيجب ألا يكون شاذا ، والشذوذ أن يخالف الراوي الثقة من هو أوثق منه. 

- وألا تكون به علة قادحة، والعلة القادحة عيب يبصره المحققون في الحديث فيردونه به.

وهذه ضوابط لضمان الدقة في قبول الآثار، وهي من أوثق ما عُرف من التوثيق والتأصيل في الثقافة الإنسانية.

والحكم بسلامة المتن يتطلب علما بالقرآن الكريم، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلما آخر بالروايات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها البعض.

وعمل الفقهاء متمم لعمل المحدثين، وحارس للسنة من أي خلل قد يتسلل إليها عن ذهول أو تساهل.

والسنة هي المصدر الثاني للأحكام، وفيها قد يصح الحديث سندا ويضعف متنا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه، واكتشاف الشذوذ والعلة في متن الحديث ليس حكرا على علماء السنة. فإن علماء التفسير والأصول والكلام والفقه مسئولون عن ذلك، بل ربما ربت مسئوليتهم على غيرهم.

والدليل على ذلك أن العلامة ابن حجر العسقلاني، شارح صحيح البخاري، قوى حديث الغرانيق (5)، رغم أن الحديث وضعه الزنادقة، وهو ما أعطى جواز مرور لهذا الحديث المكذوب إلى الناس، حتى إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وضعه في كتابه عن السيرة النبوية، وهو رجل شديدة الغيرة على الإسلام ودفاعا عن صفاء التوحيد، وهذا الحديث المكذوب استغله الكاتب الملحد سلمان رشدي ليصدر روايته "آيات شيطانية".

ومن الأحاديث التي ناقشها الكتاب حديث "لحم البقر داء"، وكل متدبر للقرآن الكريم يدرك أن الحديث لا قيمة له، مهما كان سنده، فالقرآن نص على إباحة لحم البقر في موضعين، بل امتن على البشر بإباحته لحم البقر.

ويرى الغزالي أن هناك عيبا في الذين يشتغلون بالحديث وهو قصورهم في تدبر القرآن وفقه أحكامه، وهو ما يفرض التعاون في ضبط التراث النبوي، فما القيمة في حديث صحيح السنة عليل المتن! ومع ذلك فهناك آلاف من الأحاديث الخالية من العلل والشذوذ تم تسجيلها في دواوين السنة، وما بقى نزر يسير يتعاون في ضبطه الفقهاء والمحدثون.

وقد انتقد الذين يتطاولون على الفقهاء باسم الدفاع عن الحديث النبوي، رغم أن ما فعله الفقهاء هو اكتشاف علل بعض المرويات فردوها وفق منهج علمي مدروس، وهم بذلك يتأسون بالصحابة والتابعين، فالسيدة عائشة- رضي الله عنها- أنكرت حديث "إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه"، وردته بالآية الكريمة "ولا تزر وازرة وزر أخرى"(6) ، والذي تؤكده عائشة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه".

ومن هنا كان أئمة الفقه الإسلامي يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب، يعتمد القرآن أولا، فإذا وجدوا في ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع.

وحديث الآحاد يفقد صحته بالشذوذ والعلة القادحة، وإن صح سنده، فالإمام أبو حنيفة يرى أن من قتل رجلا ذميا أو معاهدا يقتص منه، ومن ثم رفض حديث "لا يُقتل مسلم في كافر" مع صحة سنده، وهنا نلاحظ أن القفه الحنفي أدنى إلى العدالة، وإلى مواثيق حقوق الإنسان، وإلى احترام النفس البشرية، فالقصاص شريعة الله، وهو ظاهر في القرآن الكريم، والأحناف يقدمون ظاهر القرآن على حديث الآحاد.

وأهل الحديث يجعلون دية المرأة نصف دية الرجل، وهذه سوءة فكرية وخلقية، رفضها الفقهاء المحققون، لأن الدية في القرآن واحدة للرجل والمرأة، والزعم بأن دم المرأة أرخص هو زعم كاذب، فالرجل يُقتل في المرأة، كما تُقتل المرأة في الرجل، فدمهما سواء باتفاق.

وعندما شارك الدكتور معروف الدواليبي في وضع القوانين في باكستان وفق الشريعة الإسلامية سوى في الدية بين الرجل والمرأة. وكان رأيه أن يسد الطريق على من يتهمون الإسلام بانتقاص مكانة المرأة، فالفقه الحنفي يسوي في الدماء والديات بين الجميع.

والمالكية والأحناف يكرهون تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة، على الرغم من أن هناك حديثا يحث على صلاة ركعتين تحية للمسجد، وما سمع المسلمون أحدا يتهم الإمام مالك بأنه يعادي السنة النبوية.

ودلل الشيخ الغزالي بأن هناك روايات وأحاديث منقولة بطريق الآحاد تشير في الآية الكريمة في سورة النجم "فدنا فتدلى" أنه ليس أمين الوحي جبريل عليه السلام، ولكن الله سبحانه، وتلك رواية مستغربة، وتخالف نصوصا كثيرة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، ويقول: "وقد ضقت ذرعا بأناس قليلي الفقه في القرآن كثيري النظر في الأحاديث، يصدرون الأحكام، ويرسلون الفتوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة، ولا زلت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل، وحديثهم عن الإسلام جريء، واعتمادهم كله على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامي المستوعب لشئون الحياة".

والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحث قضية ما جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب والسنة، وحاكموا المظنون إلى المقطوع، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة.. أما اختطاف الحكم من حديث عابر، والإعراض عما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس عمل العلماء.

وقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمي هم القادة الموثقين للأمة، الذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلونه من آثار إلى الفقهاء، فكلا الفريقين يحتاج إلى الآخر، فلا فقه بلا سنة، ولا سنة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتم بهذا التعاون، والمحنة تقع في اغترار أحدهما بما عنده، فلا فقه مع العجز عن فهم القرآن الكريم، ومع العجز عن فهم الحياة نفسها.