تجديد الفكر الإسلامي (3-3)

يتناول الترابى بعض الإشكاليات النظرية فى قضية التجديد فيشير إلى أن حركة الوعي، والصحوة والدعوة الدينية لأول ظهورها كانت تذكر بأصول الإيمان وتقرر شمول الإسلام وتجادل فى القضية الكلية لمعنى الدين وجدواه فى الحياة، ذلك أن الغفلة الطويلة أحالت الدين عند أغلب المسلمين تراثاً فى هامش من الحياة، وأوهت قواعدة الإيمانية الموحدة، وأحدثت فراغاً اعتقادياً جذب على المسلمين دعوات مادية متحاملة على الدين، تنكره وتزدريه إجمالاً، وتورد عليه شبهات تلقى الريب فى أصوله الكلية[1].وقد يتوهم بعض المتدينين أن الدين من حيث تعلقه بالله القديم الباقي، لا يخضع فى شيء لأحوال الزمن وأطواره ولا تتصور فيه مفارقة بين قديم وجديد مما نعالجه بالتجديد، وقد توهم الدهريون أن الدين بل الوجود كله نسبي وكله متقادم بائد، والحق فى تصور الدين أنه توحيد بين شأن الله وشأن الإنسان فى الدنيا، بين المطلق الثابت والنسبي المتحول[2].

الدين: توحيد المثال والواقع

يرى الترابي أن الدين من شأن الإنسان وهو علاقة خضاعة وضراعة يتخذها الإنسان من حيث هو كائن حر، نحو موجود أعلى، ويرتب عليها علاقاته بسائر الوجود، فالمعنى الدينى للوجود ليس فى ذاته المجردة بل فى كونه موضوعا لكسب الإنسان الحر، لأن الدين هو مواقف اعتقاد الإنسان فى تصور الوجود، اهتداء إلى معرفة الله الحق المطلق ربا وإلها وتصديقا للوحي فى أخبار الغيب وإيمانا بعدله فى أحكام الشرع[3].

الدين ثبات وتطور

بعد تمام الله وختام الرسالة لم يعد نسخ الشريعة من خارجها وجها من وجوه تجدد الدين، بل انحصر التجديد الدينى فى وجهين اثنين من داخل الشريعة، أسمي أدناهما إحياء وأقصاهما تطويرا للدين وأرى التجديد الأكمل ما اشتمل الوجهين جميعا[4].ووفقاً للترابى، فإن بتطوير الدين هو كسب تاريخي أعظم مما يبلغه مجرد إحياء الدين بالبعث والإيقاظ والإثارة، لأنه يكيف أحوال التدين التاريخية لطور جديد فى ظروف الحياة وينهض بالدين نحو كسب بشري ويؤكد وقعه بوجه جديد، ويستصحب هذا التجديد جهدا نفسيا وفكريا وعمليا زائدا، تتولد عنه مواقف إيمان وفقه وعمل[5].دواعى التجديد الديني وهكذا يرى الترابي أنَّ الدين يدور بين الثابت المطلق والنسبي المتحوِّل. ويُعزز لنا ذلك بأمثلة واضحة لا يُجادَل فيها: فمن الثابت مثلاً ما في الوحي من أخبار الغيب، فهذه ثابتة في كل الرسالات وفي كل الأزمان وإن اختلفت صورة التعبير عنها. ولكن في المقابل هناك المتغير، كالشرائع الفرعية المتصلة بأحوال الوجود الزمني المتحرك، وهنا تغدو الحركة جائزة في شرع الله، ليوافق ظروف قدر الله، ويبقى معبراً عن حق الله. وعلى ذلك يرى الترابي التجديد شرطا لأصالة التديّن واستمراره، وهو بذلك شرطٌ للتوحيد في الدين، فإذا لم تتجدد العبادة حالاً من الزمن بعد حال، انقطع اتصالها بثغرة زمنية، وإذا لم تتحقق في التاريخ جيلاً بعد جيل، انحجب عنها جيل. لأن التجديد "ينطوي على إثبات البعد الروحي للإنسان –أخص خصائص البشر- ذلك أنه يُثبت قدرة الإنسان على تجاوز ظروف التاريخ الذي يتّجه بعاقبه وكثافته إلى أنْ يحجب الإنسانَ عن أصول الوحي والشرع الأول" [6]. ويرى الترابى أن مرور الزمن بذاته قد يؤثر على الفقه ويستلزم تجديده وذلك لدواع فنية تتأتى من نتائج التتابع والتراكم فى التراث، فالفقه يتجه فى تطوره من التعميم إلى التشعيب ويتفاقم ذلك حتى يبلغ مدى من الكثافة تكاد تحجب المقاصد العليا للتدين[7].

دورة التجديد الديني

ويركز الترابي في طرحه لقضية التجديد الديني على أن الدين حركة توحيد بين التعلق الإيماني بالأزل، والتعلق العملي بالظروف، بين الإنسانية والبشرية، بين الروح والمادة، وتطرأ على الدين أحوال القوة والضعف بقدر ما يمد الإنسان أسبابه أو يقطعها مع الوجود الأعلي أو الأدني. فالتوحيد عند الترابي هو "مفتاح الحياة الدينية، وهو من ثم مفتاح العلم الديني، فلا بد من تجلي المبدأ التوحيدي في وحدة منهج العلوم قاطبة، ثم في وحدة عناصر المنهجية المختصة بكل علم، وكما كان الشرك نقيض التوحيد فإن سمات المنهج العلمي الإشراكي تتميز عن المنهج الإسلامي التوحيدي بتجزئتها للحق والحقيقة، وغُلوِّها في اعتبار أو اعتبار مقابل، وتناقضها وانقطاع نسقها النظري والتاريخي" [8].

الأصول والسلفية والتجديد 

ثم ينتقل الترابي للحديث عن السلفية والتجديد، ونجد أنه يقارن بين السلفية الأولى التي كان أصحابها رجال أصول أكثر مما كانوا رجال فروع، وبين من يَتسمَّون بالسلفية الآن، والذين يَرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين، ويتعصبون لهذا التاريخ، ويقلدون السلف لا في مقاصدهم ومسالكهم، بل في حرفية أفعالهم وأقوالهم. ويصف هؤلاء بأنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم، ولا يعلمون كثيراً عن الواقع الحاضر الذي يُراد أن يقام فيه الدين"[9].ومهما كان تاريخ السلف الصالح امتدادا لأصول الشرع فإنه ينبغي ألا يوقر بانفعال يحجب تلك الأصول[10].فالمسلم المتجدد الإسلام إنما يقبل على التراث ناقداً لا ناقلاً، ليبني عليه لا ليعيد بناءه وتتأتى له أهلية النقد من النظرة التوحيدية، التى تنسب التراث إلى واقعه المعين لتقوم مغزاه ثم تنسبه من جانب آخر إلى نظام معايير الحق كما قررها الوحي وتمثلت فى واقع عهد التنزيل فتحاكمه إلى منطقها الأقوى[11].إذا كان التجديد هو استمساك بالأصولية فى الدين فإن من أبشع الدعايات فى وجهه أن يظن تبديلاً للدين فذلك ناشئ عن الوهم بأن الدين هو جملة الصور التى شكلت الحياة الدينية السنية وإنما الدين الحق أحكام مشروعة فى نيات الإيمان تشمل الحياة وتوحدها، وأحكام فى العمل لا تشمل إلا بعض وجوه التعبير عن عقيدة الإيمان والتوحيد[12].

أحوال فى ظاهرة التجديد

وينظر الترابي إلى أن الجمود والثورة كلاهما سبب فتنة فى الدين، بل يغري أيهما بالآخر، ذلك أن الجمود يؤدي إلى أن يخلد الإنسان فى مقامه بينما يقتضي الدين مقاماً جديداً فتزداد الشقة والغربة بينه وبين دينه ويزداد بانسلابه من الدين تصلبا فى أوهامه وأهوائه، حتى لا يترك رجاء للإنابة الرفيقة ويصبح الإصلاح العنيف لزاما ليكسر حدة المقاومة ويستدرك كل القصور المتراكم، وتنبعث الثورة التى تقع عندئذ بقوة اندفاع هائل لتحقيق الإصلاح الشامل وقد يتعسر لذلك أن تتوازن فيها دوافع الإيمان مع ضوابطه، وأن توافيها أوعية من الفقه ترشد مجراها، بل قد يحدث فى اقتحامها لمراحل السير على طريق غير مرسوم، أن تغطي على حدود الدين افتتانا بالقوة، وعدوانا على أهل القديم أو غلوا فى الدين[13].

حركة التجديد المعاصرة

يرى الترابى أنه وإن اجتهدت القرون الأولى فى ملاحقة الواقع بتجديد الفقه، فقد تثاقلت حركة الفقه من بعد حتى جمدت، وتجاوزها الواقع وظل يتباعد عنها، ومن شواهد ذلك ما أدى إليه تواخينا فى تجديد الفقه من ثغرات واسعة فى الحياة المعاصرة[14]. ويشير الترابى إلى إن التجديد اليوم بمداه الواسع الشامل، وبمغزاه الأصولي وبوسائله الشديدة، لا يمكن أن يتأتى إلا بقيادة جماعية تتسع لتستوعب كل هموم التجديد وتقوى على النهوض بأعبائه الفكرية والعملية، ولابد من أن يتحقق معنى الجماعة فى حركة التجديد لا بالتكتل العددي، فإن كثيرا من محاولات الإصلاح الخائبة كانت تواتيها حشود جماهيرية هائلة، لكنها تتعبأ كلها حول زعيم واحد يؤمن للناس الشرعية المتمثلة، ويثقون بفكره ومبادراته لكنه بحدود الذات الواحدة لم يكن ليتسع لمتطلبات الأمر كله[15]. ويرجع الترابى سبب إخفاق حركة الإسلام فى تحقيق الإصلاح الداخلي والعز الخارجي إلى أنها لم تجعل منهج التجديد شاملا شمول الدين التوحيدي حيث يحيا الإيمان منبعثاً ليلد علما متفجرا ويثمر عملا مباركا، ويتمثل جماعةً فاعلةً، ولئن تهيأ لنا قدر من صحوة الإيمان وتجدده، فلابد من أن نصوبه نحو تجديد الفقه والعمل والبناء الاجتماعي، لتتعبأ لنا حركة موحدة فى كسبها الديني، تحقق وثبة بما فى نفوسنا نحو مثل الدين الحق وتتجلى نهضة حضارية جديدة فى تاريخ الإسلام ومستقبل العالم[16].

ويخلص الترابي إلى أن مقتضى الدين هو أن نتحرك بذكاء وحكمة وإتقان لنتخذ من مادة الطبيعة وسيلة لتحقيق أغراض الدين، وكان أولى بنا نحن المسلمين أن نشرع ثورة الاتصالات التكنولوجية الحديثة، لأن العقيدة توحي إلينا والشريعة تأمرنا أن نتحد ونتآخى ونتعاون[17].

 

 

[1] ص56

[2] ص59

[3] ص63

[4] ص70

[5] ص70

[6] ص73

[7] ص77

[8] ص81

[9] ص87

[10] ص78

[11] ص88

[12] ص89

[13] ص97

[14] ص98

[15] ص100

[16] ص 102

[17] ص110