الكتاب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف
الكاتب: الدكتور يوسف القرضاوي
الطبعة: الثالثة
الناشر:سلسلة كتاب الأمة الصادرة عن رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر
سنة النشر:شوال 1412 هـ
عدد الصفحات: 224 صفحة
هل هناك تطرف؟
كتاب "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، صدر في بداية الثمانينيات، وكان وقتا حرجا للصحوة الإسلامية حيث تصاعدت الاتهامات لها بالتطرف والغلو في الدين والعنف، والحقيقة أن بعض الشباب المتدين وقع في هذه الأخطاء جميعا، إلا أن الاتجاهات المعادية للصحوة الإسلامية سعت أن تلصق تلك الاتهامات بالإسلام ودعاته، لذا جاء الكتاب ليعلن رأي الإسلام بوضوح في مسائل العنف والغلو والتكفير، مناصرا لخط الاعتدال في الفكر والدعوة الإسلامية.
كان الشيخ القرضاوي مدركا لاحتمال التوظيف السياسي لكتابه ضد الصحوة الإسلامية، ومدركا نوايا احتمال أن تستغل مادة الكتاب كذريعة للإجهاز على الصحوة ذاتها وليس لعلاج تلك الآفة المقلقة داخلها، أو أن يُستغل الكتاب تحت شعار مقاومة التطرف الديني إلى مقاومة الدين ذاته، غير أن الشيخ رأى أن كلمة الحق لابد أن تُقال وتُعلن لأنها قضية تهم العالم الإسلامي، والسكوت فيها ليس حلا، كما أن ترك ساحة العلاج لأقلام وآراء ينقصها العلم والخبرة، أو يغيب عن مسلكها الضمير والخلق القويم يُنتج علاجات مغشوشة تزيد من المرض، وتدهور صحة الجسد الإسلامي بالكامل، فمسؤولية العالم الرباني أن يبين الدين ولا يكتمه.
يبدأ الكتاب من نقطة تأسيس مهمة وهي أن التطرف لا تنتجه النصوص، ولكن ينتجه الواقع الذي يجبر البعض على قراءة النص بطريقة معينة، ومن ثم فالمسؤولية عن التطرف يتقاسمها الجميع، ولا يتحمل وزرها الشباب المتدين وحدهم.
وفي مقدمة الكتاب بيان لأهمية المؤسسة الدينية الرسمية ودورها في وقاية المجتمع من التطرف والغلو، لكن شريطة أن ترفع السلطة السياسية يدها عنها، وألا تستخدمها في تبرير أفعالها، أو الحصول منها على الثناء والتأييد لمواقفها، وألا يكون دورانها في فلك السلطة؛ فهذا يجعلها جسدا لا روح فيها، بل يفقد الشباب الثقة فيها.
ما هو التطرف الديني؟
التطرف في اللغة هو البعد عن الوسط، والوقوف على الطرف، أما الإسلام ودعوته فأصلها الوسط، والوسطية إحدى خصائص الإسلام، وإحدى المعالم التي ميز الله تعالى بها الأمة المسلمة، قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (1) فهي أمة العدل والاعتدال التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف عن خط الوسط.
والنصوص الشرعية تدعو إلى الاعتدال، وتحذر من التطرف، الذي ورد في الشرع بكلمات متعددة منها: الغلو والتنطع والتشدد، ونصوص الإسلام تنفر من الغلو وتحذر منه أشد التحذير، وفي الحديث الشريف: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين"، فأهل الأديان السابقة كانوا يغالون في دينهم، لذا خاطبهم القرآن الكريم "يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم"(2).
والغلو يبدأ من الشيء القليل، ثم يتسع حتى يتطاير شرره، وفي الحديث "وإياكم والغلو في الدين" وقد جاء هذا الحديث عندما ظن البعض أن رمي الحصيات كبيرة الحجم أثناء الحج أبلغ من رمي الحصيات الصغار، لذا نبه الحديث الشريف أن الغلو يبدأ من الأمور الصغيرة التي قد لا يدركها الإنسان، ثم يتطور حتى يُتخذ الغلو منهجا وسبيلا، لذا فهذا الحديث شامل لكل الغلو سواء في الاعتقاد أو الشعائر أو العبادات، لذا كانت النصاري من أكثر أهل الأديان غلوا في الدين، ونهاهم القرآن عن هذا الغلو في قوله تعالى "لا تغلو في دينكم"(3)، وفي حديث مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا، وهؤلاء هم المجاوزون للحدود.
وقد قاوم النبي -صلى الله عليه وسلم- كل اتجاه ينزع إلى الغلو في الدين، وأنكر على من يبالغ من أصحابه في التعبد والتقشف بما يخرجه من حد الاعتدال، فالإسلام شرع العبادة بما لا يؤدي إلى تعطيل مصالح الدنيا وعمارة الأرض، ولم يشرع الإسلام الرهبانية واعتبرها تعزل المسلم عن الحياة والعمل، فالأرض هي المحراب الكبير للمؤمن، وهي المجال الواسع لعبادته واجتهاده إذا صحت النية، وروعيت الحدود الشرعية، والآية الكريمة تشير إلى هذا التوازن "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"(4)، وجاء هذا التوازن في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي"(5) لهذا أنكر القرآن الكريم على من يحرمون الطيبات والزينة، ورفض الإسلام أن يعيش المسلم كالرهبان، لذا حرم أن يختصي المسلم، وأعلنها النبي صلى الله عليه وسلم صراحة أن ذلك ليس من منهج الإسلام، وقال "فمن رغب عن سنتي فليس مني" وسنته تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه.
العيوب الملازمة للغلو في الدين
-الغلو ضد الطبيعة البشرية: فالنفس البشرية لا تصبر على الغلو، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، لذا غضب النبي –صلى الله عليه وسلم- من الصحابي الجليل معاذ بن جبل عندما أطال على الناس في الصلاة، وقال له: "أفتان أنت يا معاذ" وكررها ثلاثا (6) وفي حديث آخر يقول: "إن منكم منفرين، من أم بالناس فليتجوز، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة"(7).
-الغلو قصير العمر: فالقدرة على الاستمرار في الغلو غير متيسرة، والإنسان بطبعه ملول، محدود الطاقة، لذا نجده ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، وفي الحديث: "وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"(8) ومن الوصايا النبوية المهمة في هذا الشأن قوله صلى الله عليه وسلم "إن الدين يسر، ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا"(9) وفسر البعض قوله "وقاربوا" أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.
-الغلو عنوان للجور على الحقوق: فلا غلو بلا تجاوز في الحقوق التي يجب أن تُراعى والواجبات التي تُؤدى، وفي الحكمة "ما وجد إسراف إلا وبجانبه حق مضيع".
ولكن ما معنى التطرف الديني؟
تحديد المقصود بالتطرف هو الخطوة الأولى لعلاجه، وهذا التحديد لابد أن يُقام على معالم الشرع وليس استنادا إلى الآراء المجردة فقط، ويلاحظ هنا أن معيار تدين الفرد والمجتمع من حوله له تأثيره الواضح على الحكم على الغير بالغلو أو الوسطية أو التطرف، وعندما يبتعد المجتمع عن الإسلام يكون حضور الشعائر والآداب الإسلامية محل استغراب، بل قد يتهم المسلم الذي يتحلى بها بالغلو مع أنها من أوامر الدين.
كذلك ليس من الإنصاف اتهام مسلم في دينه بالتطرف لأنه اختار رأيا فقهيا من الآراء المتشددة ما دام يعتقد أنه الأصوب، بل كان الصحابة الكرام منهم المتشدد كعبد الله بن عمر، ومنهم المترخص كعبد الله بن عباس.
ويؤكد القرضاوي أن البعض ينكر أمورا لها في الفقه وتراث الفقهاء أصل ما، وبعض الشباب تأثر بهذه الآراء، ومن هنا لا نستطيع أن نتهم مسلما بالتطرف لأنه شدد على نفسه استنادا إلى رأي فقهي، بل ليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده، إذ لا نملك معه إلا الحوار.
مظاهر التطرف: للتطرف مظاهر متعددة منها:
-التعصب للرأي: وهي من أولى دلائل التطرف، وهو تعصب لا يعترف معه للآخرين بوجود، وأن يجمد الشخص على فهمه جمودا يعيقه عن رؤية مصالح الخلق ومقاصد الشرع وظروف العصر، ولا يتيح له الجمود أن يوازن بين رأيه ورأي الآخرين. وتزداد خطورة التعصب للرأي عندما يتجه ذلك المتعصب إلى فرضه بالإكراه سواء بالقوة أو باتهام الآخرين بالفسق والابتداع.
-إلزام الناس بما لم يلزمهم الله به: والتطرف هنا يلغي موجبات التيسير، ويرفض الرخصة، وفي الحديث "إن الله يحب أن تُؤتى رخصه"، وقد يُقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين، ولكن الذي لا يُقبل منه بحال من الأحوال أن يُلزم بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم، والعنت في دنياهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى مع نفسه، حتى إنه كان يقوم الليلة فيطيل القيام حتى تتفطر قدماه، ولكن كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعيا ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال، وفي صحيح البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه".
ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن وكأنها فرائض، وعلى المكروهات وكأنها محرمات، والمفروض ألا نلزم الناس إلا بما ألزمهم الله تعالى به جزما، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاؤوا فعلوا وإن شاؤوا تركوا.
وانتقد الشيخ القرضاوي اتجاه بعض المتدينين إلى خط التشدد، وكثرة انتقادهم لأي عالم أو مفت يدعو للتيسير أو يرفق بالناس أو يرفع عنهم الحرج في ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها.
-التشدد في غير محله: ومما ينكر من التشديد أن يكون في غير محله ولا زمانه، كأن يكون في غير دار الإسلام وبلاده الأصلية، أو مع قوم حديثي عهد بالإسلام والتوبة، فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية والأمور الخلافية، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات، والأصول قبل الفروع، وتصحيح العقائد أولا، فإذا اطمأن إليها دعاهم إلى أركان الإسلام، ثم إلى مقامات الإحسان.
الغلظة والخشونة: الله تعالى يأمرنا أن ندعو إليه بالحكمة لا بالحماقة، وبالموعظة الحسنة لا بالعبارة الخشنة، وأن نجادل الناس بالتي هي أحسن، والقرآن الكريم لم يذكر الغلظة إلا في موضعين:
الأول: في قلب المعركة ومواجهة الأعداء، قال تعالى: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة" ((10))
الثاني: في تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها، قال تعالى: "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله"((11))
أما في مجال الدعوة فلا مكان للعنف والخشونة، وفي الحديث "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا دخل العنف في شيء إلا شانه"، والدعوة أولى باللين، لأنها تسعى للدخول إلى أعماق الإنسان، وقصة مؤمن آل فرعون أكبر دليل على ذلك.
سوء الظن بالناس: من مظاهر التطرف سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من منظور أسود، وأن يصبح الأصل هو الاتهام والإدانة في التعامل مع الناس، ومن سوء الظن عدم التماس المعاذير للناس، والتفتيش عن عيوبهم، وإشاعة الأخطاء والسقطات التي يقع فيها الآخرون، وتأويل القول والفعل على المحمل السوء، بل يمتد سوء الظن بالآخرين عند البعض ليشمل الأموات، فيتهم العلماء والصالحين في نياتهم وأعمالهم، ويتمادى البعض في باطله فيتهم الأمة كلها بالكفر بعد القرن الرابع الهجري، وهؤلاء سيئوا الظن مولعون بالهدم، وآفة سوء الظن متغلغلة في نفوسهم، وفي الحديث الشريف "إياكم وسوء الظن، فإن الظن أكذب الحديث".
السقوط في هاوية التكفير: ويبلغ التطرف غايته حين يسقط عصمة الآخرين ويستبيح دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولا يرى لهم حرمة ولا ذمة، ويتأتى ذلك لمن يتهم الناس بالتكفير والخروج عن الإسلام أو عدم الدخول في الإسلام ابتداء، وهذا يمثل قمة التطرف، وهذا ما وقع فيه الخوارج، الذين كانوا أشد الناس عبادة، ولكن كان فكرهم فاسد، وقد أسرف بعض الناس في التكفير، فكفروا الناس أحياء وأمواتا بالجملة، مع العلم أن تكفير المسلم أمر خطير.