تعتمد جماعات العنف في مجتمعاتنا على أن هذه الأنظمة الحاكمة غير شرعية لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها أو اختيار أهل الحل و العقد, وبيعه عموم الناس, فهي تفتقد الرضا العام, الذي هو أساس الشرعية, وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف, وما قام بقوة السيف يجب أن يقاوم بسيف القوة, ولا يمكن أن يقاوم بسيف القلم.

ونسي هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم إن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة, إذا استقر له الوضع, ودان له الناس وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان بعد إنتصاره على ابن الزبير رضي الله عنه وقد أقره الناس ومنهم بعض الصحابة مثل ابن عمر وأنس وغيرهما, حقنا للدماء ومنعا للفتنة, وقد قيل سلطان غشوم, خير من فتنة تدوم.

وهذا من واقعية الفقه الإسلامي ورعايته لتغير الظروف.

وترى جماعات العنف كذلك أن هذه المنكرات الظاهرة السافرة التي تبيحها هذه الحكومات من الخمر و الميسر والزنى والخلاعة والمجون والربا وسائر المحظورات الشرعية يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة, وهي ترى أنها تملكها فلا يسقط الوجوب عنها إلى التغيير باللسان بدل اليد كما في الحديث الشهير (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه...) ويغفل هؤلاء الضوابط و الشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة التي قررها العلماء.

وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله, أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضي بها, وسكت عنها, ولم يحكم بكفرها, والقاعدة التي يزعمونها أن من لم يكفر الكافر فهو كافرا.

وبهذا توسعوا وغلوا في (التكفير) وكفروا الناس بالجملة.

وعلى هذا لا يبالون من يقتل من هؤلاء المدنيين الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل لأنهم كفروا فحلت دماؤهم و أموالهم. كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة أنهم نقضوا العهد بعدم أدائهم للجزية وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين, وأنظمتهم الوضعية, ولرفضهم للشريعة الإسلامية. وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة, وحل دمهم ومالهم وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب من الأقباط في مصر, كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضا.

وهم يرون أن السياح وأمثالهم الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية وترخيصات قانونية, والذين يعدهم الفقهاء (مستأمنين) ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين, يرون هؤلاء مستباحي الدم لأنهم لم يأخذوا الإذن من دولة شرعية, ولأن بلادهم نفسها محاربة للإسلام فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا, فلا عصمة لدمائهم وأموالهم !

وكذلك يقول هؤلاء عن الدول الغربية التي يقيم بعض هؤلاء فيها وقد أعطتهم حق الأمان أو حق اللجوء السياسي لمن طردوا من بلادهم الأصلية فآوتهم هذه الدول من تشرد وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف.

يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجح إن هذه الدول كلها كافرة محاربة للإسلام وأمته ويجب أن نقاتلهم جميعا حتى يُسلموا فيسلموا, أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, ولما سئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد, قال إنها كدورة المياه نستخدمها للضرورة, رغم نجاستها.

وهؤلاء الكفار دماؤهم حلال, وأموالهم حلال للمسلمين بنصوص الدين.

ويذكرون هنا آيات و أحاديث يضعونها في غير موضعها فإذا واجهتهم بغيرها من الآيات و الأحاديث التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح, قالوا لك هذه نسختها آية السيف !

وإن كنت لاحظت نوعا من التطور في (فقه القاعدة) ظهر في المبادرة الأخيرة التي أطلقها زعيم القاعدة أسامه بن لادن في شهر إبريل 2004 م يدعوا فيها الأوروبيين أن يتعهدوا بالتخلي عن أمريكا وعدم التصدي لقتال المسلمين وهو يعهد لهم في مقابل ذلك ألا يتعرض لهم بأذى لا في بلادهم ولا في سفاراتهم ولا في مصالحهم في الداخل أو الخارج. وهذا يعتبر نقله مهمة في فقه زعيم القاعدة وجماعته, فقد كانوا من قبل يرون قتال اليهود و النصارى جميعا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, وهم في هذه المبادرة يكفون أيديهم عمن كف يده عن المسلمين, ولم يساند أمريكا في حربها على العالم الإسلامي.

هذا هو فقه جماعات العنف الإسلامي باختصار, الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان وتقشعر من بشاعتها الأبدان ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.

وهو بلا ريب فقه أعوج وفهم أعرج يعتوره الخلل و الخطل من كل جانب ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفه علمية متأنية لمناقشتهم في أفكارهم هذه والرد عليهم فيما أخطأوا فيه في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن و السنة وإجماع الأمة.

فهنالك خلل في فقه الجهاد و النظرة إلى غير المسلمين واعتقادهم وجوب قتال كل الكفار, وهذا ناقشناه باستفاضة في هذا الكتاب.