نستكمل في هذه الحلقة، من تناولنا كتاب المرأة والعمل السياسي رؤية إسلامية للكاتبة هبة رؤوف عزت, مسارات النظرة التجديدية التي تقدمها بشأن هذا الموضوع, وقد تناولنا فيما سبق ما يتعلق بمفهوم "نقص" الأهلية في الشهادة على الدين الواردة في سورة البقرة وما يتعلق بها من آراء واجتهادات لفهم طبيعة هذا النقص, وسياقه الوارد فيه وعموميته أو استثنائه.

 مفهوم البيعة

 وحول مفهوم "البيعة" تؤكد الدراسة على قصور المفهوم الشائع, وهذا القصور يرجع إلى غياب إدراك التفرقة بين البيعة العينية والبيعة الكفائية من ناحية، وافتراض نقص أهلية المرأة من ناحية ثانية، إذ إن بيعة النساء تتجاوز حدود الطاعة في المعروف لتشمل البيعة على العقيدة أي الالتزام السياسي، حيث بايع رسول الله نساء الأنصار، والمهاجرات بعد صلح الحديبية، ونساء قريش بعد الفتح على ذلك وهي البيعة الواجبة عينا على كل مسلم ومسلمة بدون اختلاف في الصيغة أو تمييز في المسؤولية.

كذلك قد تبايع المرأة البيعة الكفائية، وتعد شخصية مثل "نسيبة بنت كعب" نموذجاً على هذه الحالة، فقد بايعت الرسول على الجهاد في بيعة العقبة الثانية، وقاتلت في غزوة أحد، ويوم اليمامة، وغزوة خيبر، كما بايعت بيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة رسول الله على الموت، وهو ما يدل على التزامها بالبيعة رغم أنها بيعة كفائية لأن فروض الكفاية على أهلها فروض عين، فلا مجال لمسامحة النساء كما ذهب الرأي سالف الذكر، وهو ما يعني وجوب التزام النساء بالبيعة أيا كان نوعها، وعدم وجود مجال للمسامحة كما ذهب التقسيم السابق.

 المصافحة في البيعة

 أما المصافحة فهي قضية خلافية، حيث ذهب البعض لجوازها عند بيعة النساء، في حين أكد البعض الآخر على حرمتها، وتظل المصافحة ضابطاً أخلاقياً لا يستتبع في التحليل السياسي التفرقة بين بيعة الرجال وبيعة النساء، كما أنها قضية غير مثارة في ظل الدولة الحديثة إذ يتغلب -حال وجود دولة إسلامية- أخذ البيعة بطرق أخرى خلاف المصافحة والمشافهة.

 الولايات العامة

 وحول مسألة "الولاية" توضح الكاتبة أنه سواء أكانت هناك نماذج لولاية المرأة في عصر الخلفاء أم لا فإن هذا لا يقدح في أهلية المرأة للولايات العامة، إذ إنه في ظل ما سبق تحليله من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فإن عدم اشتراك المرأة في الشؤون الإدارية للدولة مردة إلى طبيعة الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام وليس من شأنه أن يعطل الأحكام الشرعية لأن الكتاب والسنة الثابتة هما مصدر التشريع والأحكام.

ويدل على طبيعة هذه الحياة الاجتماعية رواية عمر بن الخطاب السابقة الذكر: "كنا لا نعد النساء شيئاً فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك حقا من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا"، فلم يكن من الممكن نقل مثل هذا المجتمع من عدم اعتبار النساء بالمرة إلى توليتهن، وهو ما راعاه التشريع والتزمه الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الأمور الخاصة بالعرف الاجتماعي ما لم يكن ماساً بالعقيدة.

وتقول عائشة رضي الله عنها: "لو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنى أبداً"، فلم يكن العرف الاجتماعي بشأن المرأة أيسر على التغيير، لذا لم تتم تولية المرأة في العصر الأول، و"الترك ليس بحجة".

 الشورى

 فيما يتعلق بدور المرأة في الشورى أحد جوانب العمل السياسي في المجتمع المسلم ترى هبة رؤوف عزت أن الأمة هي في مجموعها "أهل الشورى" وتتفاوت درجة الوجوب باختلاف المسألة محل الشورى من ناحية، وأهلية كل فرد من ناحية أخرى، ويمكن تصور إدارة النظام السياسي الإسلامي من خلال الشورى في هذه المستويات الأربعة ولا يلزم أن تكون الشورى من خلال "مجلس شورى" كما ذهب البعض، إذ إنها مسألة تخضع لتقدير المصلحة وطريقة إدارة المجتمع.

       وتستعرض الكاتبة مسؤولية المرأة في الشورى وفقاً لمسائل الشورى المختلفة:

  • فهي تشارك في المسائل التشريعية ذات الصبغة الفقهية، إذ إن لها بالإجماع حق الاجتهاد والفتوى كما ذكرنا في معرض تناولنا للولايات العامة، وهو واجب كفائي.
  • وتشارك في الشورى في المسائل الفنية المتخصصة، إذ إن العبرة فيها بالأهلية، وهي واجب كفائي.
  • وتشارك في الشورى على المسائل العامة باعتبارها فردا في الأمة، وهي مشاركة واجبة وجوب عين.
  • وتشارك في الشورى على المسائل الخاصة بفئة معينة من خلال العمل النقابي الذى تتأسس مشاركتها فيه على حقها في العمل المهني.

 دائـــرة الأســرة

       المحور الثالث لهذه الدراسة يتناول عمل المرأة السياسي في دائرة الأسرة، ويتضمن مشروعية اعتبار الأسرة وحدة تحليل في العلوم السياسية وأسباب غيابها عن العلوم السياسية الوضعية، كما يبين فلسفة الأسرة في الإسلام وطبيعتها السياسية، ثم يتناول مسؤولية الأسرة في عملية التنشئة السياسية خاصة في ظل أزمة الدولة القطرية في العالم الإسلامي، ثم مسؤوليتها بذلك في التعبير الثقافي فالاجتماعي فالسياسي.

       وإذا كانت الدراسة تفترض عدم وجود تقسيم اجتماعي للعمل، ومشاركة المرأة بحكم الاستخلاف في العمل السياسي، فإن الحديث عن الأسرة هو بالضرورة حديث عن المرأة باعتبارها فردا من أفرادها ولا يتم أداء وظائفها إلا بفاعليتها في إطارها، وهي الدائرة الغائبة في الخطاب المعاصر عن عمل المرأة السياسي.

       تقارن الكاتبة في هذا الفصل مفهوم الأسرة في الرؤية الغربية والرؤية التوحيدية الإسلامية، ففي المفهوم الغربي تعد دراسة الأسرة نموذجاً للموضوعات التي تلقي الرؤية المعرفية للغرب وخبرته التاريخية بظلالها عليها، ويوضح التوقف أمام وضعها وتصنيفها في العلوم الاجتماعية هذا الارتباط، فالأسرة كموضوع دخلت في تصنيف العلم الغربي دائرة علمي الاجتماع والانثربولوجيا، أما علم الاجتماع فقد اهتم اهتماماً رئيسياً بالأسرة ووظائفها المجتمعية المختلفة خاصة التنشئة، وهناك اقترابات عديدة لدراستها.

ويكاد لا يخلو كتاب في مقدمة علم الاجتماع من جزء عن دراسة الأسرة كإحدى المؤسسات الاجتماعية، ووظائفها، وأشكالها، وأثر التغيير الاجتماعي على بنيتها، أما كتب علم الانثربولوجيا فأغلبها يدرس الأسرة كوحدة اجتماعية "تقليدية" ما زالت موجودة في بعض المناطق التي تحتفظ بالشكل القبلي كتكوين اجتماعي أساسي وتسودها علاقات القرابة والعشائرية، أو تدرسها في ضوء التغيرات التي طرأت عليها في المجتمعات الصناعية في تطورها الحديث والمعاصر والتي أدت لتغير بنيتها والعلاقات داخلها وذلك كله في إطار تغلب عليه التاريخية.

       وعن الأسرة في الرؤية الإسلامية تشير الكاتبة إلى أنه لم تحظ الجوانب السياسية في الأسرة باهتمام يذكر في الفكر والفقه الإسلاميين، فالكتابات الفلسفية التي اهتمت "بسياسة الرجل أهله" استخدمت السياسة بمعنى قواعد التعامل الإنساني والسلوكيات، ودارت في إطار الأخلاق، والكتابات العديدة التي تناولت السياسة الشرعية لم تورد أي ذكر للأسرة كوحدة سياسية، أما كتب الفقه فقد ركزت على جوانب المعاملات وأحكام الزواج والطلاق ولم تتطرق إلى ما عداها.

 وهكذا بقيت الأسرة مجالاً لدراسة الفقه والأخلاق ولم تدرس في إطار السياسة الشرعية، فالظروف السياسية التي مرت بها الأمة، وتدهور قيم الشورى والعدل وتركز السلطة في الخلافة قد جعل الإمامة والخلافة وما يتعلق بهما من قضايا محور دراسة السياسية الشرعية، وحتى ابن خلون الذي تميز باقترابه الاجتماعي ودراسته للسنن ركز في تحليله عن الخلافة والملك وربط تعريف "السياسة" بهما، وهو ما جعل المجتمع، والأسرة بالتبعية كأحد أبرز أبنيته، غائباً عن ساحة التحليل السياسي الإسلامي.

وهنا تبين المؤلفة هذا الربط الواضح بين "السياسي" و"الاجتماعي" في الرؤية الإسلامية، والطبيعة السياسية التي تميز الجماعة المؤمنة بكل مستوياتها، فالأسرة في الرؤية الإسلامية نموذج مصغر للأمة والدولة، تقابل القوامة فيها الإمامة أو الخلافة على مستوى الدولة، وتحكمها الشريعة وتدار بالشورى، ويشبه عقد الزواج فيها عقد البيعة، ويتم اللجوء فيها عند النزاع إلى نفس آليات حل النزاع على مستوى الأمة وهي الصلح والتحكيم، وإن ظلت هناك اختلافات بحكم شخصية وفردية العلاقات على مستوى الأسرة وطبيعتها المتميزة، وهو ما يجعلها محضنا للقيم الإسلامية ويؤهلها للقيام بمسؤوليات في مجالات عديدة أبرزها: التنشئة السياسية، والتغير السياسي.

يتبع إن شاء الله الحلقة الأخيرة من هذا الكتاب.