تناولنا في الحلقات الثلاث السابقة مبادئ تجديد النظر إلى قضية العمل السياسي للمرأة في المجتمع الإسلامي المعاصر للدكتورة هبه رؤوف عزت من خلال تأكيدات على مجموعة من المفاهيم أهمها ضرورة استدعاء مكونات الرؤية/التصور الإسلامي الراشد لمعالجة مثل تلك الإشكالات الواقعة في حياة الأمة, والتي ارتبطت بالتغريب تارة والجمود تارة أخرى, ومكونات هذه الرؤية الكلية ومفاهيمها وقيمها الأساسية هي التي تتيح فهما أفضل وأكثر رشادة لمثل هذه الإشكالات كما أنها تساعد في عملية التجديد اللازمة لحيوية الأمة وحركتها الحضارية.

ونستكمل هنا الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه الدراسة المهمة في منهجها وطرحها, وتتعلق هذه الحلقة بمحورية الوعي في بناء النظرة التجديدية, وكذلك أهم نتائج هذه الدراسة.

الوعي والسياق الاجتماعي

 تشير هبة رؤوف عزت إلى أهمية الوعي في المحيط الحضاري الإسلامي وكيف ساهم المجتمع الإسلامي الأول في تكوينه لدى المرأة المسلمة فلا يمكن فهم السلوك السياسي للمرأة بمعزل عن التنظيم الاجتماعي لمجتمع ما، والحركة السياسية للمرأة في الرؤية الإسلامية لا تنفصل عن الحركة الاجتماعية، وقد يُعد فهم هذه الأخيرة أهم مداخل فهم العمل السياسي للمرأة في المجتمع الإسلامي.

المرأة وحضور الجماعات

 إن عامة النساء ملزمات شرعاً بحضور صلاة العيدين، وهي الاجتماع السياسي العام الذي يتم في العام مرتين في موعد لا يتخلف ولا يمكن إلغاؤه، وتناقش فيه قضايا الأمة، وهو الحد الأدنى للوعي اللازم لكافة النساء اللاتي قد تمنعهن مسؤولية الأسرة من حضور تجمعات كالجمعة وصلاة الجماعة، لذا فقد سعى رسول الله لتحقيق أكبر استفادة للنساء في قاعدتهن العريضة، فحرص على تكرار وعظهن حين ظن أنه لم يسمعهن في أحد الأعياد. كذلك تشهد المرأة الصلاة الجامعة، وهي الصلاة التي يدعو لها الإمام في المسجد الجامع لمناقشة الأمور الهامة الطارئة أو أخبار المسلمين بها.

       أما النساء اللاتي يتمتعن بأهلية خاصة ومستوى أعلى من الوعي وتمكنهن الظروف من شهود الجمع والجماعات فقد كفل لهن التوجيه النبوي ذلك وأمر الرجال بعدم منعهن حتى في صلاة العشاء والفجر، وهي الأوقات التي يتلى فيها القرآن في المسجد فيكون مصدر التربية العقيدية والوعي الاجتماعي والسياسي في آن واحد، وهو مجال اختياري غير نظامي لرفع الوعي العام لدى المرأة، والسياسي على وجه الخصوص، بشكل كفائي. 

المرأة ودروس العلم

 ويلي ما سبق إطار أكثر نظامية لرفع الوعي لهذه الفئة من النساء وهو دروس العلم، حيث خصص رسول الله يوماً للنساء يعلمهن فيه أمور الدين، عقيدة وشريعة. كما ترتبط مشاركة المرأة في العمل السياسي، والتي تتحدد بأهليتها ودرجة وعيها، بالسياق الاجتماعي الذي توجد فيه، إذ تحكم حركتها في أغلب المجتمعات تقاليد وأعراف قد تشجع نشاطها السياسي أو تعوقه.

العرف الاجتماعي

 كما نبهت الدراسة على مسألة العرف الاجتماعي ودوره في تشكيل الوعي للمرأة وأثره البارز في بعض القضايا في الصدر الأول حيث راعى التشريع الإسلامي مسألة العرف الاجتماعي، ولم يقم منهجه على الاصطدام به بل تطويعه وتغييره على مدى زمني مناسب ما لم يكن مناقضاً لأصل من أصول العقيدة، وهو ما جعل "العرف" عند الأصوليين أحد الأدلة الشرعية، إذ اعتبروه دليلاً من الأدلة التي يرد لها الحكم الشرعي مشترطين في ذلك ألا يكون مخالفاً للنص وأن يكون غالباً مطرداً.

       وتوضح دراسة الخبرة الإسلامية في عصر الرسول تفاوت الأعراف المرتبطة بالحركة الاجتماعية للمرأة بين مجتمع مكة ومجتمع المدينة. إذ يدل الحديث الشريف: "نساء قريش خير نساء ركبن الإبل أحناهن على طفل وأرعاهن على زوج في ذات يده" على أن الدور الأسرى للمرأة القريشية كان سمتها الرئيسي، في حين تميزت المرأة الأنصارية بالفعالية الاجتماعية الأوسع، والتي عبر عنها عمر بن الخطاب في سياق حديث رواه البخاري حين قال: "كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذ هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصحت على امرأتي، فراجعتني. فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وإن إحداهن تهجره اليوم حتى الليل فأفزعتني..." كذلك يروى عن عمر أيضاً "كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا".

       وتطرح المؤلفة ملاحظتها على الحديث الشريف، وعلى رواية عمر بن الخطاب، كما يلي:

  1. الاختلاف بين المجتمع في مكة ومجتمع المدينة في السياق الاجتماعي ومجالات حركة المرأة ومكانتها.
  2. إن التأثير بعد الهجرة كان من أعراف المدينة على أعراف مكة وليس العكس.
  3. إن عوامل التغيير الاجتماعي في أوضاع المرأة كانت بالأساس من خلال: النص القرآني والحديث النبوي. والقدوة النبوية في التعامل مع أهل بيته، وكذلك في تعامله مع الصحابيات بشكل عام وإقراره لمشاركتهن في نواحي الحياة المختلفة من عبادات ومعاملات وطلب علم وجهاد وغيرها.

النساء والمشاركة الايجابية

تضيف الدراسة بعداً آخر للعمل السياسي للمرأة, يتمثل في الجوانب الإيجابية والدافع الذاتي وأهميته في تفعيل السياق الاجتماعي حيث كان حرص الصحابيات، خاصة الأنصاريات، على المشاركة الإيجابية في أنشطة المجتمع المختلفة وتقديمهن النموذج والمثال قد كرس عملية التغيير ودفعها، مع ملاحظة أن المرأة المسلمة في عصر النبوة كانت تغشى الميادين المختلفة على هدي من آداب الإسلام وكانت تأخذ مكانها في صف متماسك ومجتمع يجتمع على قيم ومبادئ واضحة فلم تكن دخيلة عليه أو غريبة عنه، وهو ما يستلزم في الواقع المعاصر اجتهاداً في ضبط حركة المرأة ومقاصدها ودوائرها كي لا تخدم حركتها من منطلق إسلامي في النهاية مقاصد غير إسلامية بحكم تركيب المجتمع الإسلامي المعاصر في ظل أوضاع التبعية للقوى الدولية.

وإذا كان السياق الاجتماعي يجب مراعاته عند حركة المرأة كي لا تصطدم به، فإنه كذلك مجال للتغيير كي يستقيم على الشرع، وجهد المرأة في هذا الأمر لازم حتى لو تحدى المجتمعُ بحكم تقاليده وأعرافه حركتَها إلى حين، إذ يصبح هذا التغيير واجباً ليس فقط لتحسين مكانة المرأة بل لتحقيق المنظومة الإسلامية بكل جوانبها والتي لا تكتمل ولا تصبح فعالة إلا بتطبيق شتى جزئياتها.

المرأة في العمل السياسي في الواقع الراهن

ترى هبة رؤوف عزت أن طرح مسألة حركة المرأة في العمل السياسي في الواقع الراهن من خلال مدخلي الجهاد والخروج الهيكليين يتميز بما يلي:

       - أنه يمثل إطاراً مرجعياً شرعياً لحركة المرأة يجعل مسؤوليتها في الفعاليات الاجتماعية والسياسية المختلفة، مشاركة أو امتناعاً واجباً عينياً، وهو ما يشكل أساساً تعبوياً يقوم على عقيدة الأمة ويدفع لدمج المرأة في أنشطة الأمة، وهما الدمج والتعبئة اللذان فشلت شعارات التنمية والمواطنة الصالحة في تحقيقها على مستوى معظم قطاعات النساء في العالم الإسلامي.

       - أن هذا الإطار الجهادي يسمح، برغم السياق الاجتماعي الراهن الذي يقيد حركة المرأة في مجتمعات إسلامية عديدة، بحركة واسعة للمرأة، إذ إن السياق الاجتماعي عادة ما يصبح أكثر مرونة في ظل المناخ الجهادي عنه في الظروف العادية، وهو ما يمكن أن يعطي النساء دفعة لتغيير أوضاعهن تحت مظلة الشرعية الإسلامية.

       ومن ناحية أخرى فإن هذا الطرح يشكل خطاباً جديداً يتجاوز الجدل السائد بشأن عمل المرأة، والذي يتراوح ما بين الخطاب العلماني الذي يرى أن عمل المرأة خارج بيتها بمقابل مادي هو معيار استقلالها الاقتصادي ومساواتها الاجتماعية وأساس مشاركتها السياسية، والخطاب الإسلامي الذي تتفاوت درجاته بشأن عمل المرأة خارج بيتها بين التحريم والإباحة، إذ يصبح عمل المرأة واجباً شرعياً في سياق الجهاد ويرتبط بالأمة، وهو ما يميزه عن الرؤية العلمانية التي تعتبره مكسباً فئوياً وطموحاً فردياً مشروعاً.

       إنه يمثل مدخلاً للتعامل بواقعية مع السياق التاريخي الذي تمر به الأمة، إذ تفرق فرضية العين بين النساء وظروفهن فتكلف كل امرأة بما يلائم قدراتها ومرحلتها العمرية والتزاماتها الأسرية، وتتحدد أولويات العمل بالمعايير الشرعية، وهو ما يجعل الاستثمار في "رأس المال البشري" أي التربية في الأسرة، عملاً تنموياً لا يقل أهمية عن العمل الوظيفي العام، ويعطي العمل الاجتماعي بغير مقابل مادي ثقلاً موازياً للعمل المؤسسي بمقابل مادي. فالعبرة في المنظور الإسلامي بتحقيق المقاصد وليست بدرجة المؤسسية أو البعد المالي.

       إن مشاركة المرأة في العمل الجهادي الهيكلي بكل صوره هو واجب عيني تلتزم به كل امرأة على الصورة التي تناسب قدراتها وإمكاناتها، وإذا كانت الرؤية الإسلامية تعطي ثقلاً أكبر في العمل السياسي لمؤسسات كالنقابات والاتحادات كما ذكرنا في معرض الحديث عن الشورى، وتعطي مسؤوليات أكبر لوحدات كالمساجد والمدارس والأوقاف كما ذكرنا آنفاً، فإن حركة المرأة يجب أن تركز على دعم هذه الأبنية، وإضعاف الأبنية الأكثر تغريباً واختراقاً، وهو ما يستلزم بلورة آليات جديدة لحركة المرأة السياسية، ونظرة جديدة لمجالاتها، وصياغة جديدة لمؤشرات دراستها ومتابعتها تختلف عن المؤشرات المستخدمة في الدراسات الاجتماعية والسياسية الحالية.

 نتائج الدراسة: [[3]]

        توصلت الدراسة إلى عدد من النتائج أبرزها: أن الرؤية الإسلامية لا تعرف تقسيماً للعمل بين المرأة والرجل، فكلاهما مسؤول عن حفظ هذا الدين في شتى المجالات، وكل فرد في الأمة يدور في دوائرها المختلفة بحسب طاقته وبحسب ظروف الأمة ذاتها في كل عصر، كما لا تعرف الرؤية الإسلامية تقسيم العمل بين المؤسسات المختلفة بشكل قاطع، فالمؤسسات أدوات وليست شروطاً لأداء الفاعليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومثلما توجد واجبات عينية وواجبات كفائية على الأفراد، كذلك توجد واجبات عينية وواجبات كفائية على الوحدات الاجتماعية والمؤسسات التي تنشئها الأمة، والهدف هو أداء الواجبات وتحقيق المقاصد وهو ما يقوم عليه الفعل السياسي في الرؤية الإسلامية.

       وقد أوضحت هذه الدراسة من خلال المنهاجية الأصولية أن قضية المرأة ليست مجالاً بحثياً، ولا هي منهاجية جديدة، بل هي في الرؤية الإسلامية موضوع من الموضوعات التي تحكمها المنهاجية الأصولية التي تربطه بقضايا الفكر الإسلامي الأخرى، وهو ما يؤدي إلى استفادة الدراسة فيه من الدراسات الإسلامية المختلفة، وإسهامها بنفس القدر في جهود التجديد في هذه الدراسات وذلك لاشتراكها في المنهج وسعيها لتحقيق نفس المقاصد الشرعية ووجود مساحات تقاطع عديدة.

       وإذا كانت هذه الدراسة قد سعت إلى تبيان أبعاد الرؤية الإسلامية لقضية عمل المرأة السياسي، فإنها تعد مجرد إطار يحتاج إلى مزيد من الجهد لصياغة مؤشرات وبلورة أطروحات، وتفصيل ما أجمل وتوضيح ما لم يتسع المجال للتفصيل في أبعاده، وهو الجهد الذي يجب أن يشارك فيه كل العاملين في مجال صياغة النظرية الإسلامية المعاصرة، حيث إن طبيعة ترابط الأبعاد المختلفة لهذه الرؤية تفرض توحد الجهود وجماعية الاجتهاد.

       إن قضية العمل السياسي للمرأة في الرؤية الإسلامية لا تنفصل عن قضية التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث تعد أبرز قضاياه بل وتمثل أبرز التحديات التي يواجهها، والانطلاق في سبيل خروج الأمة الإسلامية من حالة السقوط الحضاري التي تمر بها لن يتم إلا بمشاركة المرأة الفعالة في جهود الإصلاح والتنمية، وهي المشاركة التي تحتاج إلى فقه جديد للواقع وآليات تغييره وإدراك المرأة لمسؤوليتها في هذا التغيير.

       وإذا كان التوحيد هو ضابط منظومة المفاهيم الإسلامية، ومحقق وحدة العلوم والقضايا الإسلامية، فإنه كذلك عنصر وحدة رجال هذه الأمة ونسائها على المنهج الإسلامي، فكراً وحركة، رؤية وواقعاً، بما يحقق تكامل الصف الإسلامي ونهضة الأمة كي تقوم بمسؤولية الشهادة على العالمين.