تناولنا في الحلقة الأولى من هذا التحليل ما يتعلق ببنائية كتاب "المرأة والعمل السياسي رؤية إسلامية" للدكتورة هبه رؤوف عزت, وما يتعلق بفكرته الرئيسة, وفروضه ومسلماته وأهم المفاهيم التي يتناولها, ونتناول في هذه الحلقة بيان المفاهيم الكلية التي تناولها الكتاب وعلاقتها بتجديد النظر إلى قضية الدراسة وإشكالاتها.

       المفاهيم الكلية

 تسعى الكاتبة في الفصل الأول من هذا الكتاب إلى بيان المفاهيم الكلية التي تحكم التصور الإسلامي في القضية موضوع الدراسة (المرأة والعمل السياسي)، فتعرض لمفاهيم التوحيد والاستخلاف والسنن باعتبارها المفاهيم الأساسية في هذا السياق، موضحة تميزها عن المفاهيم المقابلة في المنظومة المعرفية الغربية، ثم تستعرض المفاهيم التحليلية التي تستخدم في دراسة العمل السياسي للمرأة، وتحلل: مفهوم الدور ومفهوم حقوق المرأة، مبينة إشكاليات استخدامهما في التحليل ثم توضح أبعاد مفهوم العمل (الواجبات العينية والكفائية) وقدرته التفسيرية في هذا الصدد، وهو المفهوم الذي يقوم عليه منهاج الدراسة في التحليل.

     إشكالية غياب المفاهيم الكلية:

أشارت المؤلفة في هذا الصدد إلى خطورة غياب المفاهيم الكلية أو عدم تحديدها حيث تفتقر الدراسات المعاصرة في كثير من فروع العلم لتحديد المفاهيم الكلية، أو "ما قبل المنهج"، أي الأساس الذي لا يقوم المنهج إلا عليه، أو الأسس الفلسفية التي ينطلق منها العلم، والتي تمثل المسلمات الكامنة وراء المناهج والاقتراب في العلوم المختلفة التي تنبثق عن نموذج معرفي ما. ويتصف الإطار المعرفي الإسلامي بأنه يتضمن "المطلق" وينطلق من عقيدة مرتبطة بوحي، وهو ما يميزه عن الإطار المعرفي الوضعي العلماني الذي يتأسس على النسبية وإخضاع كل الظواهر للقياس واستبعاد الدين من المنهج واعتباره موضوعاً من موضوعات الدراسة لا منطلقاً للعلم والمعرفة.

ومن الملاحظات المنهجية في هذه القضية أن قضية المرأة والعمل السياسي قد طرحت في الكتابات المختلفة بشكل جزئي يركز على أحد جوانب هذه الإشكالية، وتعرَض الموقف الأساسي فيها للابتسار تارة، والاتهام والتشويه تارة أخرى، لذلك فإن بناء رؤية إسلامية لهذه القضية يجب أن ينطلق من المفاهيم الكلية المستقاة من الإطار المرجعي والمنظومة المعرفية الإسلامية، وهذه المفاهيم الكلية في هذا السياق هي: التوحيد والاستخلاف والسنن، وهي المفاهيم المؤسسة للرؤية الكلية الإسلامية الحاكمة لأي تصور معرفي (نظري أو تطبيقي) ولأي قضية من القضايا الإنسانية والموضوعية. 

مفاهيم الرؤية الكلية

والمفاهيم الكلية التي تناولتها الدراسة بالتحليل والتي تمثل مرجعية الإطار المعرفي الإسلامي وتمثل رؤيته هي: التوحيد، الاستخلاف، السنن، ونبهت إلى أن غياب النموذج المعرفي الإسلامي عن إدراك كثير من الباحثين ووعيهم قد أوقعهم في رؤية الذات من خلال الآخر، وهذا ما جعل "عربية" الحركة والتنظير ضرباً من المستحيل في ظل "غربية" المنطلق والمفاهيم، والتي تتأسس على الصراع والنسبية والوضعية، مما يجعل تأكيد المفاهيم الكلية والمنطلقات المعرفية أمراً بالغ الأهمية عند دراسة المرأة في الرؤية الإسلامية.

نقد منظور النسوية

في ضوء ذلك الغياب – للمفاهيم الكلية الإسلامية في تناول قضية المرأة- وهذا الإحلال لمفاهيم الرؤية الغربية انتقدت هبة رؤوف الإطار النظري لـ"لحركة النسوية" في ضوء النموذج المعرفي التوحيدي، في الجوانب التالية:

أولاً : أن "النسوية" تحمل في طياتها قدراً كبيراً من التناقضات، يمكن تقسيمها إلى: 

  • تناقضات على مستوى المعرفة فهناك "المدرسة الإمبريقية النسوية"، وهناك أفكار "ما بعد الحداثة"، وهناك "نظرية الموقف"، ولكل منها منطلقاتها ومنهجيتها.
  • تناقضات على مستوى المقولات، فتزعم تحرير الإنسان لكنها تثبت التضامن النوعي، وتطالب بإلغاء الفروق النوعية في حين تنادي بالوعي النسائي.
  • تناقضات على مستوى الحركة، إذ لا يوجد اتجاه نسوي واحد بل عدة اتجاهات، فهناك "النسوية الراديكالية" المعادية للمشروع الليبرالي، وهناك "النسوية الاشتراكية"، وهناك "النسوية الليبرالية المحافظة"، ولكل من هذه الاتجاهات أطروحاتها المتناقضة أحياناً مع غيرها.

فمحاولة النسوية تجاوز الثنائية الكامنة في النموذج المعرفي الغربي، والتي تجد جذورها في الثنائية المسيحية، لم تؤد إلى توحيد المنظومة بل إلى مزيد من التفسيخ على مستوى النموذج المعرفي الغربي.

ثانياً: برغم ادعاء النسوية العالمية، تأسيساً على أن الهدف والموضوع هو المرأة، إلا أن إقرار هذه النظرية بأنها مادية، بل "المادية الأكثر اكتمالاً"، يجعلها محصورة في النهاية في النموذج المعرفي المادي أيا كانت أطروحاتها.

دائـــرة الأمـــة

المحور الثاني للكتاب هو مناقشة وتحليل محددات عمل المرأة السياسي في دائرة الأمة ويوضح في هذا التحليل مبادئ الأهلية السياسية، ثم يبرز أهمية الوعي السياسي في فعالية دور المرأة الاجتماعي، ويتناول أثر السياق الاجتماعي على هذه الفعالية، وذلك في المبحث الأول من الفصل الثاني من الكتاب.

وفي المبحث الثاني يعرض لمجالات هذه الحركة السياسية، فيبدأ بالبيعة التي تُعد عماد النظام السياسي الإسلامي، ثم يتناول الولاية التي ترتبط بالإدارة السياسية، ثم الشورى كأساس وآلية للنظام السياسي الإسلامي، ثم الجهاد باعتباره سياج حفظ هذا النظام، ويوضح المبحث طبيعة هذه المجالات في الواقع الحضاري الذي تعيشه الأمة وأثر ذلك على مسؤولية المرأة السياسية وحركتها الفعلية. 

في أهلية المرأة

من أهم القضايا التي تناولها الكتاب في هذا المحور قضية "الأهلية السياسية للمرأة" حيث ناقش الآراء الموجودة في الفقه التقليدي لاسيما مفهوم "نقص" الأهلية حيث ترى الكاتبة أنه يكاد يكون هناك اتفاق بين معظم الآراء الفقهية التي تعرضت له لتأكيد هذا النقص، وهنا توضح أن هذه الآراء لم تفرق بين المستويات المختلفة للأهلية السياسية: 

  • فهناك أهلية عامة لكافة المسلمين في الواجبات العينية، كالبيعة العامة والشورى العامة.
  • وهناك أهلية عامة، خاصة للواجبات الكفائية التي قد تصبح في ظروف معينة واجبات عينية، كالجهاد، وهي وإن كانت أهلية عامة إلا أنها تحتاج إعداداً وتدريباً لرفع كفاءة العامة من الناس.
  • وهناك أهلية خاصة بالواجبات الكفائية كالولايات، وهي تستلزم قدرة فطرية، كما أن لها جوانب كسبية.

وارتبط بهذا السياق عدم التفرقة بين مستويات نقص العقل، فهناك نقص فطري ونقص نوعي:  

  • أما النقص الفطري فهو نقص العقل أو الذكاء بدرجات متفاوتة قد تبدأ بالسفه وتنتهي بالجنون، وهي من عوارض الأهلية، ولا يدخل فيه النساء إذ يتحملن التكليف الشرعي والمسؤولية الجنائية والمدنية ومسؤولية تولي الولايات العامة. 
  • أما النقص النوعي فهو نقص قد يكون عرضياً يطرأ على الفطرة مؤقتاً كما في دورة الحيض أو النفاس أو بعض فترات الحمل وهو لا يخل بالأهلية.

وتؤكد أيضاً أن "النقص" في الحديث الشريف ((في الصحيحين عن جابر: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل ‏الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة ‏مثل نصف شهادة الرجل.‏ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها.‏ أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟‏ قلن: بلى. قال:فذلك من نقصان دينها".‏)) ليس نقصاً فطرياً لازماً، بل مرتبطاً ببعض الواجبات المرتبطة بالأهلية "العامة / الخاصة" و"الأهلية الخاصة"، ولا يتعارض مع وجود نساء وهبهن الله قدرات عالية في مجالات ينقص فيها مستوى عامة النساء بل وعامة الرجال، بل قد يكن أفضل فيها من الرجال لأن الأمر منوط بالأهلية ذات العناصر الكسبية والأهلية الخاصة.

       متطلبات شهادة المرأة

     تفرق المؤلفة بين متطلبات الشهادة في القرآن الكريم حيث جاء الحديث حول نقص العقل بالشهادة التي يشهد فيها رجل وامرأتان، وهي الشهادة التي حددها القرآن في آية الدين في سورة البقرة، أما باقي الشهادات فقد اشترط فيها القرآن العدالة وهي العدالة المرتبطة بالعقيدة والرابطة الإيمانية ولم يشترط الرجولة، وإن تفاوت العدد المطلوب من شهادة لأخرى. ولفظة "مِنْكُمْ (1)∗، وهو اللفظ الذي تدخل فيه النساء لعموم الخطاب القرآني، ومن التضييق أن يتعلل بآية الدين للطعن في ذاتية المرأة ورميها بالنقص العقلي الفطري، إذ إن هذه الآية إرشادية لحفظ الحقوق من الضياع، ويرشد فيها عند تعذر وجود الرجال إلى استشهاد امرأتين مع رجل واحد، والمرأة هنا قد تكون من العوام اللاتي لا خبرة لهن بمثل هذه الأمور المالية، كما قد تكون خاضعة لعارض مؤقت من عوارض الأهلية كالحيض والنفاس، ولذا لزم الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالباً، أما بقية الشهادات فتتفاوت، منها الشهادات الكفائية التي يشترط فيها العدالة، فوجود المرأة المستوفية لشروطها فيها كشهادة الرجل كالشهادة على الوصية، كما قد تكون شهادات عينية لازمة كالشهادة في الحدود، وهنا يلزم المرأة الشهادة ويفترض فيها الأهلية العامة لفجأة حدوثها، لذا كان استخدام لفظ "منكم" عاماً.  

يتبع إن شاء الله باقي قضايا وإشكالات موضوع المرأة والعمل السياسي في المجتمع الإسلامي المعاصر.