لقد حكم الإسلام الأرض قرونا متطاولة، فما حرم أحدا من الناس، مسلمهم وغيره، من الحقوق التي كفلها الله له، وجاءت بها رسالة الإسلام، وأمرت به شريعته، وقد عاش أهل الذمة هذا وشهدوا به، لكنه لما ضعفت دولة الإسلام، وشوكة المسلمين، وصارت الجولة في صالح غيرهم، تحكموا فيهم وأحكموا القبضة عليهم، ثم راحوا يزورون التاريخ ويبثون من الأفكار ما يلبسون به على الناس دينهم، ويزعزعون في نفوسهم الثقة بدينهم وشريعتهم الغراء، وخوفوا غير المسلمين من الإسلام وحكمه، حتى يصنعوا رأيا عاما قويا في كل الأرض، يرفض الإسلام، ويحارب كل فكرة تحاول العودة بالمسلمين إلى مجدهم وعزهم، لذا أردنا أن نبين بهدوء ووضوح، موقف الإسلام ودولته من غير المسلمين عند أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة.
الشيخ يوسف القرضاوي
لأهل الذمة في دولة الإسلام حقوق، كفلتها لهم شريعة الله، وأوصت بها المسلمين وتشمل:-
- حق الحماية من كل ظلم داخلي، كي ينعموا بالأمان والاستقرار في ديارهم، ولا يشعروا بالغربة بسبب اختلاف عقيدتهم، والعدل في أهل الذمة أمر أوجبه الإسلام، وتوعد ظالمهم بسوء المصير، قال صلى الله عليه وسلم "من ظلم معاهدا أو انتقصه حقا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"، وقال "من آذى ذميا فأنا خصمه" وقال "من آذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" وغير ذلك من الأحاديث والمواقف التي بينت تعامل الإسلام مع غير المسلمين.
- الحماية من كل اعتداء خارجي، وذلك وفقا لما قرره أهل العلم، بأن حماية غير المسلمين واجبة على الحاكم المسلم، إلا أن يكونوا بدار حرب، وهذا ما فعله الشيخ ابن تيمية لما ذهب لقائد التتار ليطلق سراح الأسرى، فوافقه بشرط أن يطلق سراح أسرى المسلمين، فرفض الشيخ إلا فك أسر كل الأسارى من المسلمين واليهود والنصارى، لأنهم أهل ذمة المسلمين، فلما رأى القائد إصراره وافقه وأطلق كل الأسرى.
وتشمل الحماية أيضا:
حماية الدماء والأبدان، فدماؤهم وأنفسهم معصومة، وقتلهم محرم وكبيرة من كبائر المحرمات، وقد قال صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما".
وتشمل الحماية حماية أموالهم، فحرام على المسلمين ظلمهم، أو أخذ ما لا يحق لهم منهم، قال سيدنا علي "إنما دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" فمن سرق مالهم قطعت يده، ومن غصبه عُزّر وأعيد المال لصاحبه، ومن استدان منهم وجب عليه قضاء دينه، ومن أتلف لهم بضاعة ولو كانت خمرا أو لحم خنزير غُرِّم بهما".
وتشمل الحماية حماية الأعراض، فلا يجوز سبه أو رميه بالباطل، أو الكذب عليه أو اغتيابه، أو ذكره بما يكره في نفسه وأهله، لأنه بعقد الذمة قد وجب له ما لنا، وحُرم في حقه كل محرم في حق المسلم.
- التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر
وهذ ما يسمى كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم في تعداد رعية الأمة المسلمة، وهي مسؤولة عن كل رعاياها بدون تفرقة وفي الحديث "كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته" وهذا ما مضت عليه سنة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، فتتولى الدولة القيام بطعامهم وشرابهم ومؤونتهم بصفة منتظمة، فالضمان الاجتماعي في الإسلام مبدأ عام يشمل أبناء المجتمع جميعا، ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، ودفع الضرر حال ذلك واجب، مسلما كان المرء أو ذميا.
- حرية التدين
ويحمي الإسلام لأهل الذمة حق الحرية، وأول الحريات حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه والتحول منه إلى غيره: فقد قال ابن كثير في قوله "لا إكراه في الدين" لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه.
وقد صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم، ورعى حرمة شعائرهم، فقد أعطى عمر لأهل إيلياء أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، فلا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود".
- حرية العمل والكسب
لغير المسلمين في دولة الإسلام حرية العمل والكسب، سواء أكان هذا العمل بالتعاقد مع غيرهم، أو لحساب أنفسهم، ولهم حرية مزاولة ما يحبون من الأعمال، ومباشرة ما يرغبون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم شأن المسلمين في التجارة والبيوع والمعاملات المالية والتجارية، محرم عليهم ما حُرم على المسلمين، من عقود الربا، وبيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص، سدا لذريعة الفساد وإغلاقا لأبواب الفتنة، وما عدا ذلك من الصناعات وسائر الأعمال مباح ومتاح لهم بما يشاؤون وكيفما يشاؤون، وقد برع أهل الذمة في بلاد المسلمين في أعمال واقتصاديات معينة، في فترات التاريخ المختلفة، مثل الصرافة أو بيع الذهب وغيرها، وجنوا منها أموالا كثيرة دون زكاة، إلا ما يدفعه المرء القادر على حمل السلاح من جزية، مقابل حمايته وإعفائه من الخدمة في الجيش.
- تولي وظائف الدولة
لأهل الذمة الحق الكامل في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما كان من وظائف دينية مثل الإمامة ورئاسة الدولة وقيادة الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك. فالإمامة أو الخلافة رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي لا يجوز أن يخلفه فيها إلا مسلم، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم، وكذلك قيادة الجيش، فهي ليست عملا مدنيا صرفا، فهي عمل تعبدي إذ إن الجهاد في قمة العبادات الإسلامية، والقضاء في دولة الإسلام إنما يكون بشريعة الإسلام، ولا يعقل أن يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به أصلا.
ما سوى ما سبق من أعمال يجوز أن يسند لغير المسلمين، إذا تحققت شروط الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة، وقد كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني، وتولى بعض النصارى في زمن العباسيين والعثمانيين مهام ووزارات وظائف مهمة وحساسة، وقد كان منهم سفراء ووكلاء في بلاد الأجانب.
- خصوصية أقباط مصر
لأقباط مصر شأن خاص، فقد أوصى بهم رسول الله قبل وفاته، فقال "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله"، وقال "فاستوصوا بهم خيرا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله"، وقال "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما" أو قال "ذمة وصهرا"، وقد علق العلماء على ذلك، بأن الرحم التي لهم تعني السيدة هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، والصهر يعني أن مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
- ضمانات الوفاء بهذه الحقوق
كل تلك الحقوق التي أقرتها الشريعة الإسلامية لغير المسلمين، يضمن تحقيقها والعمل بها، العقيدة الإسلامية، إذ هي شريعة الله، وقانون السماء الذي لا يتبدل، ولا يجور في حكمه، ولا يكتمل الإيمان إلا بطاعته والرضا به، لذا فإن كل مسلم مستمسك بالدين، حريص على تنفيذ شريعة الله من نفسه، ليُرضي بذلك ربه، لا يمنعه من ذلك عواطف ولا مشاعر.
ويضمن تحقيق تلك الحقوق أيضا، المجتمع المسلم فهو بالتضامن مسؤول عن تنفيذ شريعة الله، وتنفيذ أحكامها في كل مناحي الحياة، فإن قصر البعض أو انحرف أو تعدى وجد من يقومه، ويقيمه على جادة الأمر، وينتصر للمظلوم ولو كان غير مسلم.
والضامن الأعم والأشمل هو الضمير الإسلامي الذي صنعته وهذبته وأصلحته عقيدة الإسلام وتربيته وآدابه، وتاريخ المسلمين مليء بالوقائع التي تدل على التزام المجتمع الإسلامي، بحماية أهل الذمة من كل ظلم أو انتقاص من حقوقهم المشروعة، أو تقييد لحرياتهم المكفولة، حتى شعر كل الناس بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل حكم الإسلام، ولم يسجل التاريخ على دولة الإسلام ظلما لغير المسلمين، إلا أنصفهم ورد إليهم حقوقهم المادية والمعنوية.