إن المجتمع الإنساني في طبيعة تكوينه مختلف الملل والنحل، كما هو مختلف الألوان واللغات واللهجات، برغم أن الإنسانية كلها لأب واحد "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وفي الحديث "يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب".

دولة المدينة المنورة

أشار المفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا إلى أن الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة النبوية إلى يثرب على إثر التعذيب والاضطهاد الذي قوبل به هو وأصحابه في مكة، كانت هي الصورة الكاملة للدولة المتكاملة، التي تكونت من أرض لها حدود متمثلة في أرض المدينة المنورة، وشعب مختلف متنوع متمثل في تسع قبائل، ودستور ينظم حياة الناس متمثل في الصحيفة، وحاكم يُرجع الحكم في النزاعات إليه متمثل في رسول الله، هذه الدولة كانت هي أول لقاء بين دولة الإسلام وغير المسلمين، كُتب لها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل كُتب بإملاء رسول الله شخصيا، الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة في التاريخ باسم -وثيقة المدينة- أو -صحيفة المدينة- أو كتاب النبي إلى أهل المدينة، أو كما سماها المعاصرون دستور المدينة.

هذه الوثيقة وهذا الدستور نظم حياة هذه التجمعات البشرية، وقرر ما لهم وما عليهم، وأضاف إليهم مواليهم وبطانتهم كأنفسهم، وكان مما قرره واشترطه، حق المساواة والنصرة، وأن يكفل المسلمون من لا يستطيع كفاية نفسه من غير المسلمين، ولا يجير فريق أعداء فريق آخر من أهل المدينة، ولا يعينوهم عليه، وأن يكون بينهم مبدأ النصح والبر، وبهذا كان غير المسلمين المقيمين في الدولة مواطنين فيها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين من الواجبات، ومن يومها حتى يومنا هذا لم يُسجل على دولة الإسلام عدوان منظم على غير المسلمين يعتبر توجها عاما لدولة الإسلام، اللهم إلا ما لا تخلو منه الأمم من جرائم فردية قد تحدث بين المسلمين وبعضهم، أو بين غير المسلمين وبعضهم، وهو أمر في حياة الناس طبيعي.. والقاعدة أن تبقى العلاقة بين أبناء الوطن على اختلاف أديانهم، قائمة على السماحة لا يتأثرون بالفتن والأخطاء الفردية، لأن هذا عمود الدولة الفقري، متى انكسر هوى بنيان الدولة.

فكرة الذمة

تناول العوا فكرة الذمة من حيث تعريفها اللغوي، والاصطلاحي عند الفقهاء، ومفهومها الواقعي في دولة الإسلام الأولى فبين أن الذمة لغة، تعني العهد والأمان والضمان، وعند الفقهاء هي عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بأمان الجماعة الوطنية الإسلامية وضمانها، بشرط بذلهم الجزية، وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شئونهم الدينية وأحوالهم الشخصية.

فكرة الذمة تعني أن يحتمي رجل برجل أو بقبيلة فيصبح في ذمتها، إلا أن الإسلام قد طور هذه الفكرة، ونقلها من ذمة الناس إلى ذمة الله ورسوله، ومن الذمة الشخصية إلى الذمة القانونية التي تكفلها الدولة، فتحفظ بها لغير المسلمين حياتهم، وتدينهم ودور عبادتهم وإقامة شعائرهم، وبقاء أساقفتهم ورهبانهم وكهنتهم، وكانت عليهم الجزية بدلا من الجهاد مرة في السنة.

كانت أول مرة يستخدم فيها لفظة أهل الذمة على غير المسلمين، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء ذلك فيما كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران، وكان مما فيه "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير...".

إن عقد الذمة لم يكن اختراعا جديدا، وإنما وجده الإسلام شائعا بين الناس فأكسبه مشروعية بإقراره، وحصنه بأن جعله بضمان ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية، فصار العقد مؤبدا لا يقبل الفسخ، حماية لغير المسلمين من ظلم ظالم أو جور جائر من حكام المسلمين.

الجزية

وحول إشكالية الجزية على غير المسلمين قال العوا إن الجزية في الإسلام غير ملازمة لعقد الذمة في كل حال، ولا تعني إهانة غير المسلمين وإنما قُصد بها حمايتهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون بتواجدهم في صفوف الجيش الإسلامي، وقد حدث أن أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من غير المسلمين مشاركة المسلمين في الدفاع عن الوطن، لأنها في الأصل بدل الجهاد، فأسقطها سراقة بن عمرو عن أهل أرمينية سنة 22هــ، وأسقطها حبيب بن مسلمة الفهري عن أهل أنطاكية، وأسقطها أصحاب أبي عبيدة بن الجراح بإقرار منه ومن معه من الصحابة عن أهل مدينة على الحدود التركية السورية الذين عُرفوا باسم الجراجمة، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد عبد الله بن أبي سرح على هدايا يتبادلها الفريقان في كل عام، والواقع اليوم في الدول الإسلامية أن غير المسلمين يؤدون واجب الجندية، ويسهمون بدمائهم في حماية الأوطان، فهم لا تجب عليهم جزية أصلا في الفقه الإسلامي الصحيح.

انقضاء عقد الذمة

لقد انتهى عقد الذمة الأول بذهاب دولة الإسلام التي أبرمته، فالدول الإسلامية القائمة اليوم في جميع الأقطار، ليست خلفا للدولة الإسلامية الأولى التي أبرمت عقد الذمة، لأن هذه الدولة قد زالت بالاستعمار الذي قد أذهب سلطانها، وملك ديارها، وبدل شرائعها القانونية، وأدخل أبناؤها على ثقافتها وهويتها ما لم يكن منها.

إن الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه قد قرر أن الكثرة الدينية وحدها لا توجب حقا، والقلة الدينية وحدها لا تمنع من اقتضاء حق، أما ما يُقرر الحق، فهو الانتخاب الحر النزيه الذي يؤدي إلى تحقيق نصر سياسي أو هزيمة سياسية، وهذا لا يرتبط بالعقيدة الدينية، وإنما يصبح الذين حققوا النصر السياسي أكثرية سياسية ولو تعددت أديان المنتمين لهذه الأكثرية، لذا قرر الفقه السياسي أن الانتماء للجماعة السياسية لا يجوز على أساس الدين، وادعاء اقتصار ممارسة العمل السياسي على أهل دين معين في دولة متعددة الأديان لا تسنده الشريعة، ولا عليه من الفقه دليل، وهو لا يحقق أي مصلحة مشروعة، والقاعدة أن كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل، بل هو يجلب المفاسد، والقاعدة أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

أهل الذمة والولاية

وحول الحديث الصحيح الذي يستشهد به البعض في حرمة تولي غير المسلمين مناصب معينة في الدولة، أوضح سليم العوا أن ما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ولاية لغير المسلم على المسلم" إنما يعني الولاية العامة لا الولاية الخاصة التي هي اليوم ولاية كل ذي شأن، ولو كان رئيس الدولة نفسه، فحكم المؤسسات وتخصص الإدارات والوزارات قد ذهب بفكرة الولاية العامة التي عرفها الفقه الإسلامي، لا يستثنى من ذلك سوى ولاية الفقيه عند الإمامية، وإن كان منهم من يرجح عليها ولاية الأمة.

إن الوضع الجديد الذي نعيشه الآن بانقضاء عقد الذمة، لا يؤدي بالمسلمين إلى إنكار الحقوق التي تثبت بموجب هذا العقد لغير المسلمين من أبناء ديار الإسلام، فكل الوظائف والمناصب في الدول الإسلامية اليوم متاحة للمسلمين وغيرهم -ويقوم ذلك على معياري الكفاءة والمساواة في إتاحة الفرص للترشح للانتخاب الحر النزيه- إلا الوظائف الدينية التي لا تصح لغير أهل الديانة، فلا يجوز لغير المسلم أن يعمل إمام مسجد، أو أن يكون شيخا للأزهر، كما لا يجوز للمسلم أن يعمل راهبا، أو يتقلد منصب بابا الكنيسة، وغيرها من الوظائف التي تقتصر على أهل الديانة.

انتقاد ديانة أهل الذمة

لا يجوز بأي حال من الأحوال أن ينتقد المسلمون على منابرهم ديانات غير المسلمين، كما لا يجوز أيضا لغير المسلمين أن ينتقدوا ديانة المسلمين في كنائسهم ومعابدهم، لأن ذلك يشحن النفوس ويبث الفرقة بين القلوب، فيجب أن تحترم الأديان لذاتها، ويكون ذلك النقد في مؤسسات البحث والعلم والفكر، والتي تقوم على مقارنة الأديان وما يحصل على أساسه العلم، وإذا ما تمت مخالفة ذلك جاء دور القانون بمعاقبة المتجاوزين بازدراء الأديان، والإسلام عندنا يبدأ بقوله "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" فإن تطلب الأمر نقاشا كان مبدؤه "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن".