مذكرات الدعوة والداعية (2-2)
نستكمل في هذه الحلقة قراءة وتحليل كتاب مذكرة الدعوة والداعية للإمام الشهيد حسن البنا وكنا قد انتهينا في الحلقة الأولى إلى رغبة الإمام البنا في مواجهة تيار التحلل الثقافي والأخلاقي الذي جاء به الاستعمار وموجات التغريب الأولى, وفكرته في تكوين دعاة إسلاميين للنهوض بهذه الأمة.
آمال ووسائل
كان “البنا” رجلا يعرف وجهته جيدا، لا يحتاج إلى وقت ليفكر في الإجابة عن هذه الوجهة لأنه حددها مسبقا ومنذ أمد بعيد، ففي العام النهائي له بدار العلوم سنة 1927م، وحين طلب منه الكتابة في هذا الموضوع: "اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها" جاءت إجابته عنه محددة غاية التحديد:
أ- أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم.
ب- أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها أن يحوز رضا الله، والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين، أولهما: طريق التصوف الصادق. والثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس. وقد رجح الثاني - بعد أن نهجت الأول - لتعدد نفعه، وعظيم فضله.
ج- أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان:
"خاص": وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، "وعام": وهو أن أكون مرشداً معلماً، وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، ولتحقيق الثاني: "الثبات والتضحية".
في الطريق إلى الإسماعيلية
تخرج “البنا” من دار العلوم 1927 ليتسلم عمله الجديد، وهو التدريس بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية.. أربعين يوما كاملة قضاها منذ وصوله في دراسة هذا المحيط الجديد، ليجد أن جمهور القهاوي هو الأنسب للمخاطبة فاتجه إليه قرابة نصف العام الدراسي الأول -ما بقي من سنة 1927 ثم أوائل سنة 1928- فاجتمعت عليه جموع غفيرة. وبدراسة عوامل التأثير في هذا المجتمع الجديد عرف أنها أربعة: العلماء وشيوخ الطرق والأعيان والأندية، فتعامل معها كلها لتدعيم فكرته وتهيئة النفوس لها، دون أن يحول ذلك بينه وبين الاهتمام بسير التيار الإسلامي الضعيف - حينذاك - واتجاهاته في القاهرة، فكان على صلة تامة بمجلة الفتح، ونشر الدعوة لها في الإسماعيلية.
جمعية الشبان المسلمين
كما كان على صلة تامة بمجموعة الشباب التي تعرف إليها في القاهرة من قبل، وتعاهد معهم على العمل للدعوة. وحين علم بتكوين جمعية الشبان المسلمين -بمجهودات هؤلاء الشباب- كتب تواً إلى الجمعية معلنا اشتراكه بها، وألقى أول محاضرة هامة له في القاهرة في ناديها.
الإخوان المسلمون
المرحلة الأولى (تربية الأمة) 1928 -1938م
وفي 1928م زار “البنا” بمنزله ستة ممن تأثروا بدروسه ومحاضراته، ليكون المسئول بين يدي الله عنهم وعما يجب أن يعملوا للإسلام، وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة ليتضاعف هذا العدد في نهاية العام المدرسي "1927/ 1928" إلى سبعين أو أكثر قليلا. وجاءت الإجازة فقضاها بالقاهرة حينا وبالمحمودية حينا آخر، وفي هذه الفترة بدأت الجمعية الحصافية بالمحمودية تتحول في شكلها وهدفها إلى الصورة الجديدة التي تكيفت بها الدعوة في الإسماعيلية "صورة الإخوان المسلمين". وفي هذه المرحلة انصرفت دعوة الإخوان، انطلاقا من "مدرسة التهذيب"، إلى تربية الأمة وتنبيه الشعب وتغيير العرف العام وتزكية النفوس وتطهير الأرواح وإذاعة مبادئ الحق والجهاد والعمل والفضيلة بين الناس. ونجح الإخوان في ذلك إلى مدى بعيد، فخلال السنوات الخمس التي قضاها البنا بالإسماعيلية (1927 -1932م) صارت للجماعة بها مؤسسات تعمل من خلالها (مسجد ومدرسة ودار) وصار للجماعة نماذج مشرفة، لتنتشر الدعوة خارج الإسماعيلية: في أبو صوير وبور سعيد والبحر الصغير والسويس.
الدعوة في القاهرة
ورأت "جمعية الحضارة" بالقاهرة نشاط جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وانتشار فروعها في هذا المحيط حول هذا البلد، فاتصلوا بالإسماعيلية، لتنضم جمعية الحضارة إلى الإخوان المسلمين، ولتصير شعبة من شعبهم، وبالانتقال من الإسماعيلية إلى القاهرة انتقل إليها المركز العام للإخوان المسلمين ابتداء من أكتوبر 1932م. وخوفا من انتقال “البنا” من الإسماعيلية قبل أن يقيم للإخوان من بينهم من ينهض بأعباء الدعوة، تم انتخاب نائب له، لينتقل هو إلى القاهرة في أكتوبر سنة 1932م.
الدعوة في القاهرة
أنواع نشاط الإخوان في هذه الفترة
ا - المحاضرات والدروس في الدور والمساجد وتأسيس درس الثلاثاء.
2 - إصدار رسالة المرشد العام عددين فقط ثم مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية أولاً وثانياً وفي أثناء ذلك مجلة النذير لسنتين من أول عهدها.
3 - إصدار عدد من الرسائل والنشرات.
4 - إنشاء الشعب في القاهرة وزيادة شعب الأقاليم ونشر الشعب في ا لخارج.
5 - تنظيم التشكيلات الكشفية والرياضية.
6 - تركيز الدعوة في الجامعة والمدارس وإنشاء قسم الطلاب والانتفاع بجهود الأزهر الشريف: علمائه وطلابه.
7 - إقامة عدة مؤتمرات دورية للإخوان في القاهرة والأقاليم.
8 - المساهمة في إحياء الأحفال الإسلامية والذكريات المجيدة في القاهرة والأقاليم كذلك.
9 - المساهمة في مناصرة القضايا الإسلامية الوطنية وبخاصة قضية فلسطين.
10 - تناول الناحية الإصلاحية السياسية والاجتماعية بالبيان والإيضاح والتوجيه وكتابة المذكرات والمقالات والرسائل بهذا الخصوص.
11 - المساهمة في الحركات الإسلامية كحركة مقاومة التبشير وحركة تشجيع التعليم الديني.
12 - مهاجمة الحكومات المقصرة إسلامياً ومهاجمة الحزبية والدعوة في وضوح إلى المنهاج الإسلامي وتأليف اللجان لدراسات فنية في هذه النواحي.
المرحلة الثانية من مراحل الدعوة (الكفاح السياسي)
وفي 1938 وبعد النجاح في ميدان "تربية الأمة" لعشر سنوات، أصبح للإخوان المسلمين دار في كل مكان ودعوة على كل لسان وأكثر من ثلاثمائة شعبة تعمل دخل الإخوان مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، وهي مرحلة "الكفاح السياسي". أعلن البنا عن طبيعة هذه المرحلة بجرأة ووضوح في صدر العدد الأول من جريدة "النذير" في مايو سنة 1938: "سننتقل من خير دعوة العامة إلى خير دعوة الخاصة.. وسنتوجه بدعوتنا إلى المسئولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه وحكامه وشيوخه ونوابه وأحزابه وسندعوهم إلى مناهجنا ونضع بين أيديهم برنامجنا وسنطالبهم بأن يسيروا بهذا البلد المسلم بل زعيم الأقطار الإسلامية في طريق الإسلام في جرأة لا تردد معها وفي وضوح لا لبس فيه ومن غير مواربة أو مداورة فإن الوقت لا يتسع للمداورات فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم وإن لجئوا إلى المواربة والروغان وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ...".
دعوة الإخوان في الأقطار الشقيقة
وإحياء لمفهوم الأمة يوجه “البنا” إلى زيارة الأقطار الشقيقة، فكان أول مبعوث للإخوان المسلمين إلى فلسطين وسوريا ولبنان، وكان من قبل قد حاول النفوذ بدعوته إلى الحجاز واليمن عن طريق فرصة عمل كمدرس، وكان شرطه الوحيد للحجاز "ألا يعتبر موظفا يتلقى مجرد تعليمات لتنفيذها، بل صاحب فكرة يعمل على أن تجد مجالها الصالح في دولة ناشئة هي أمل من آمال الإسلام والمسلمين" لكن حال بينه وبين ذلك عدم الموافقة على ذلك من الحكومة.
مساعدة فلسطين
واستمرارا في هذا النهج يشكل “البنا” في 1355هـ/ 1939م. لجنة لتنظيم المساعدة لفلسطين، والدعاية للقضية، ودعم مؤتمر لندن بتوديع واستقبال وفد مصر إلى هناك.. وكاتب النحاس وسفير بريطانيا، وكاتب علي ماهر يشكره حين قررت مصر صرف إعانة للأسر الفلسطينية المنكوبة... الخ.