تتناول هذه المقالة رؤية حسن البنا للمرأة(1), وعناصر تلك الرؤية، في محاولة لاكتشاف مكانة تلك الرؤية ومحاولة تسكينها في خارطة الفكر الإسلامي في العصر الحديث, والذي كان يموج بأفكار شتى ما بين التحفظ والمحافظة الشديدة, والتحرر من كافة التقاليد والآداب والأخلاق, إلى الخلط الواضح في معايير التربية والقيم التي صاحبت التعليم الحديث, وابتداع وسائل الإعلام المسرح والسينما والصحافة التي أخذت على عاتقها الدعوة إلى كسر جمود التقليد العربي/الإسلامي واللحاق بالانفتاح الأوروبي, وكانت المرأة أحد المحاور الرئيسة لهذا الكسر وهذا اللحاق.

 لا يمكن الزعم بأن هناك موقفًا واحدًا ثابتًا شاملًا وحصريًا داخل الفكر الإسلامي نحو المرأة, ولا حتى داخل الحركة الإسلامية التي أرسى قواعدها الحركية حسن البنا, بل هناك مواقف متعددة, تعددت بإشكاليات هذا الموضوع الذي طُرح على مائدة البحث والفكر الإسلاميين في العصر الحديث, وحتى ما نتناوله هنا من موقف مؤسس الحركة الإسلامية في العصر الحديث, هو بذاته قد شهد تغيرًا فيما بعد  عبر عمر الحركة.

سياق الرؤية

من المهم أن نلاحظ سياق الرؤية التي قدمها الإمام البنا لأنها جزء من الرؤية بحسب علم اجتماع المعرفة الذي يؤمن بأن الأفكار لا تطلق في فراغ بل الفكرة بنت بيئتها (الزمان والمكان), وهنا يشير البنا في أحد مقالاته بمجلة المنار في إجابته على سائل حول موضوع المرأة بقوله: "...ليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأى الإسلام في المرأة والرجل وعلاقتهما وواجب كل منهما نحو الآخر فذلك أمر يكاد يكون معروفا لكل الناس ولكن المهم أن نسأل أنفسنا هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام.


  الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية من حب التقليد الأوروبي والانغماس فيه إلى الأذقان, ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالا سيئا يخرجها عن صورتها الإسلامية إخراجا كاملا ويجعلها نظما أخرى لا تتصل به بحال من الأحوال، وهم يهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي وكثيرا من النصوص التي لا تتفق مع أهوائهم؟


هذا خطر مضاعف في الحقيقة, فهم لم يكفهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون المخارج القانونية لهذه المخالفة ويصبغوها بصبغة الحل والجواز حتى لا يتوبوا منها ولا يقلعوا عنها يوما من الأيام.
فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرا خاليا من الهوى وأن نعد أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله تعالى ونواهيه وبخاصة في هذا الأمر الذي يعتبر أساسيا وحيويا في نهضتنا الحاضرة"(1)، في ضوء ذلك السياق وهذا الوجدان المشحون بالرفض لحالة السحق الغربي للقيم الإسلامية والتي تتابعت عبر عقدين من الزمان وما تزال مستمرة.

المرأة أم الأسرة؟

    أحد المداخل المهمة في رؤية الإمام البنا هو نقل موضوع المرأة في الصورة الذهنية المسلمة من موضوع فئوي إلى موضوع اجتماعي أصيل وأساسي أي نقل موضوع المرأة من موضوع "النسويات" وهو الطرح الغربي لهذا الموضوع إلى موضوع الأسرة وهو ما يتوافق مع الطرح الإسلامي الأصيل, ويذكر  في هذا الصدد قوله: "ولهذا نوجب على الأخ المسلم أن يتعبد بما أمره الله به ليرقى وجدانه، وأن يتعلم ما وسعه العلم ليتسع إدراكه وأن يتخلق بأخلاق الإسلام لتقوى إرادته، وأن يلتزم نظام الإسلام في الطعام والشراب والنوم ليحفظ الله عليه بدنه من غوائل الأمراض والسقام.. والإسلام حين يضع هذه القواعد لا يضعها للرجال ويدع النساء ولكن الصنفين في هذه الناحية الفردية في الإسلام سواء، فعلى الأخت المسلمة أن تكون كالأخ المسلم في دقة وجدانها وسمو إدراكها ومكانة خلقها وسلامة بدنها".

   ويستطرد في ذات المعنى حول أثر الإصلاح الفردي (للرجل والمرأة) في صلاح الأسرة ومن ثم صلاح المجتمع: "... وسيكون لهذا الإصلاح الفردي أثره في الأسرة، ذلك أن الأسرة مجموعة أفراد، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة ـ وهما عماد للأسرة ـ استطاعا أن يكونا بيتاً نموذجياً وفق القواعد التي وضعها الإسلام، وقد وضع الإسلام قواعد البيت فأحكم وضعها، فأرشد إلى حسن الاختيار، وبين أفضل الطرائق للارتباط وحدد الحقوق والواجبات، وأوجب على الطرفين رعاية ثمرات هذا الزواج حتى تينع وتنضج في غير عبث ولا إهمال، وعالج ما يعترض هذه الحياة الزوجية من المشكلات أدق علاج، واختط في كل نظراته طريقاً وسطاً لا تفريط فيه ولا إفراط".

  إن مدخل الأسرة يلغي هذا الحمل الثقيل الذي أثقل الواقع الإسلامي خلال قرنين من الزمان, وهو مدخل ومنهاجية للإصلاح الاجتماعي كله، يعالج فيه كل قضايا الأسرة وكل عناصرها: أزواج, أبناء, مجتمع، وهذا يلائم بامتياز قانون التطور الاجتماعي للمجتمع والمنهجية الإصلاحية في الدراسات الاجتماعية الحديثة والمعاصرة "... إذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة مجموعة هذه الأسر، وإنما الأسرة أمة مصغرة والأمة أسرة مكبرة، وقد وضع  الإسلام للأمة قواعد الحياة الاجتماعية السعيدة، فعقد بين بنيها آصرة الأخوة وجعلها قرينة الإيمان، ورفع مستوى هذه الصلة إلى المحبة بل إلى الإيثار، وقضى على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط أو يضعف هذه الوشائج، وحدد الحقوق والواجبات والصلات، فللأبوة حقها وعليها واجبها، وللبنوة مثل ذلك، ولذوي القربى حقوقهم وعليهم واجباتهم، وفصل مهمة الحاكم والمحكوم أدق تفصيل، وبين المعاملات بين الناس وأحكامها بأفصح بيان، ولم يجعل لأحد على أحد فضلاً إلا بالتقوى فلا سيد ولا مسود ولا أمراء ولا عبيد، ولكن الناس في ذات الله سواسية كأسنان المشط، إنما يتفاوتون بعمل الصالحات، وكذلك حدد صلات الأمم بعضها ببعض، وبين حقوق كل صنف فيها وواجباته، ولم يدع من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".

مبادئ وثوابت

   يؤكد الإمام البنا على مكانة المرأة في الإسلام, "فالإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات وهذه قضية مفروغ منها تقريبا, فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها واعتبرها أختا للرجل وشريكة له في حياته هي منه وهو منها [بعضكم من بعض] وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية كاملة وبحقوقها المدنية كاملة كذلك وبحقوقها السياسية كاملة أيضا وعاملها على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب يشكر إذا أدى واجباته ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا المعنى وتوضحه.

    وفي ذلك يوضح أن التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعا للفوارق الطبيعية التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة, وتبعا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما.

 
وقد يقال: إن الإسلام فرق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال ولم يسو بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح ولكنه من جانب آخر يجب أن يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئا في ناحية منه فيدعو لخير منه في ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر، وهل يستطيع أحد كائنا من كان أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي كتكوين الرجل سواء بسواء, وهل يستطيع أحد كائنا من كان أن يدعي أن الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به الرجل.

اجتهاد جانبه الصواب

   في ختام رؤية حسن البنا لدور المرأة في المجتمع, ينحاز إلى الرؤية التقليدية في الفكر الإسلامي التي ترى: حرمة مزاولة المرأة للعمل العام, وضرورة التزامها البيت, وتجنيب المجتمع فتنة الخروج والتعطيل الاقتصادي, وفي ذلك يقول: "إن الإسلام حرم على المرأة أن تكشف عن بدنها, وأن تخلو بغيرها وأن تخالط سواها، ويحبب إليها الصلاة في بيتها، ويعتبر النظرة سهما من سهام إبليس، وينكر عليها أن تحمل قوسا متشبهة في ذلك بالرجل, أفيقال بعد هذا إن الإسلام لا ينص على حرمة الأعمال العامة للمرأة؟.

  
    ويضيف أيضًا: إن الإسلام يرى للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزل والطفل، فهي كفتاة يجب أن تهيأ لمستقبلها الأسرى، وهى كزوجة يجب أن تخلص لبيتها وزوجها، وهي كأم يجب أن تكون لهذا الزوج ولهؤلاء الأبناء، وأن تتفرغ لهذا البيت، فهي ربته ومدبرته وملكته، ومتى فرغت المرأة من شئون بيتها لتقوم على سواه؟ وإذا كان من الضرورات الاجتماعية ما يلجئ المرأة إلى مزاولة عمل آخر غير هذه المهمة الطبيعية لها، فإن واجبها حينئذ أن تراعى هذه الشرائط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة ومن واجبها أن يكون عملها هذا بقدر ضرورتها، لا أن يكون هذا نظاما عاما، من حق كل امرأة أن تعمل على أساسه، والكلام في هذه الناحية أكثر من أن يحاط به، ولا سيما في هذا العصر "الميكانيكي" الذي أصبحت فيه مشكلة البطالة وتعطل الرجال من أعقد مشاكل المجتمعات البشرية في كل شعب وفى كل دولة". (3)


  موقف الحركة الإسلامية

   تغير موقف الحركة الإسلامية بتغير الظروف وسياقات التعامل الاجتماعي والسياسي لاسيما في الثلث الأخير من القرن الماضي حينما أقدمت الحركة على تأطير موقف نظري أكثر تطورًا من رأي مؤسسها الأول, حيث ذهبت جماعة "الإخوان المسلمين" (1994) إلى أنه: يجوز للمرأة حق المشاركة في انتخاب أعضاء المجالس النيابية وما ماثلها، وفي بعض الظروف قد تكون هذه المشاركة واجبة وضرورية، كما أنه لا يوجد ما يمنع من تولي المرأة مهام عضوية المجالس النيابية وما يماثلها. (4) إلا أنها تستطرد لملاحظة هامة (تربط بينها وبين إقرار هذه الحقوق) فترى أنه "يجب التنويه إلى لزوم التفرقة بين أن يكون للإنسان حق، وبين كيفية استعماله وشروط ذلك والظروف المناسبة لاستعمال هذا الحق، وبالتالي فإذا كانت المجتمعات تتباين ظروفها الاجتماعية، وتختلف تقاليدها، فإنه يكون من المقبول أن يتدرج استعمال الحقوق طبقاً لأحوال المجتمع وظروفه، وأن يحاط استعمال الحق بما يناسب تلك الأحوال، وأهم من ذلك بما لا يؤدي إلى الخروج على قواعد أخلاقية وردت بها النصوص ويجب الالتزام بها". (5)

كما ذهب الشيخ محمد الغزالي في أكثر من موضوع إلى أبعد من ذلك ورأى أنه لا يوجد هناك ما يمنع من تولي المرأة الولايات العامة ويسوق من القصص القرآني ما يرفع من شأن النساء أصحاب الولايات العامة ولم ينههم القرآن عن ذلك كملكة سبأ، ويرى أنه يجب أن يرأس الدولة أكفأ إنسان في الأمة سواء أكان ذكراً أم أنثى.    (6)