اسم الكتاب :الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر

المؤلف: طارق البشري

الناشر: دار الشروق- القاهرة

الطبعة: الأولى

سنة الطبع: 1417هـ=1996م

عدد الصفحات: 100

ملامح الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (3-3)

 

مع تمام السيطرة الغربية عسكريا وسياسيا على الكثير من بقاع العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان الفكر الإسلامي أمامه موضوعان عاجلان، أولهما: كيفية التجمع لمقاومة الغزو والاحتلال، وثانيهما: التنقيب عن أسباب الوهن والعجز عن المقاومة في الأمة المسلمة لعلاجها. وقد ظهرت إجابات متعددة على هذين السؤالين، فجمال الدين الأفغاني انشغل بوحدة المسلمين لمقاومة الاحتلال والعدوان، والشيخ محمد عبده انشغل بقضية الإصلاح والتربية، ورأب الصدع في الأبنية الفكرية والمؤسسية والتربوية الموروثة، وصقل إمكانيات النهوض بالتربية، أما الشيخ رشيد رضا فأوجد أواصر قوية بين الفكر السلفي وحركة التجديد الفقهي، وربط قضايا الفقه بالسياسة، والحقيقة أن الخلاف بين الأفغاني ومحمد عبده كان لاختلاف نظر كل منهما إلى أولويات العمل الإسلامي والوطني وما يحقق مصلحة الأمة. لكن يلاحظ في هذه الفترة أن الفكر الغربي بشتى مدارسه كان يستنبت في البيئة الإسلامية، ويقوم على نشره صحف ومؤسسات، تترافق مع مساع كبيرة لتغيير الأوضاع الاجتماعية وأساليب المعيشة وأنماط العلاقات لتبتعد عن المرجعية الإسلامية. كل هذه التحديات جعلت القوى المحافظة داخل البيئة الإسلامية تقوى وتلعب دورا دفاعيا عن الهوية والاعتقاد، ولعب مجموعة من المشايخ دورا بارزا في هذا الاتجاه مثل الشيوخ: محمد عليش، ومحمد بخيت، ومحمود أبو العيون.

كما نشأت في تلك الفترة جمعيات دينية تمارس دورا إصلاحيا وتوعويا مثل الجمعية الشرعية والسنة المحمدية وأنصار السنة، لكن المأزق الذي وقع فيه الفكر الإسلامي في ذلك الوقت، هو أن جناح المحافظة وجناح التجديد تصارعا، وتصادما، وأضعف كل منهما صاحبه، كان ذلك السياق العام الذي ولدت فيه الموجة الثالثة من التجديد المتمثلة في ظهور الحركات الإسلامية.

الموجة الثالثة من التجديد

ظهرت هذه الموجة مع ظهور الحركات الإسلامية، بعد الانفصال الذي حصل بين الحركات الوطنية والإسلام، إذ صارت الحركات الوطنية متأثرة بالفكر والنموذج الغربي في سعيها للتحرر والاستقلال، ومن الناحية الأخرى ألغيت الخلافة العثمانية، وغاب الإطار السياسي الجامع الذي كان يلتف حوله المسلمون. وفى تلك الفترة اندمج ذوو التوجه الإسلامي في الحركات الوطنية التي كانت ذات توجه علماني، تقديما للمصلحة المتمثلة في إزالة المحتل المغتصب، لكن بدا أن ذوي التوجه العلماني يرغبون في أن يصوغوا المجتمعات وفق أفكارهم. وفي ظل هذه الأوضاع ظهرت مدرسة الاعتدال بشموليتها مع ظهور حركة الإخوان المسلمين عام 1928 التي عملت على الاستقلال الحضاري والسياسي والاقتصادي، وتنوعت استجابة مدرسة الاعتدال للتحديات التي واجهتها.

- ففي الحالة التركية: كانت العقيدة هي المستهدفة بعد زوال الخلافة العثمانية، فانصرفت هموم مدرسة الاعتدال المتمثلة في حركة سعيد النورسي نحو تثبيت العقيدة في القلوب ومقاومة محاولات اجتثاثها، وصرفت جهدها إلى الأوضاع الاجتماعية للتوافق مع الإسلام . وعندما أوصدت أبواب التعبير أمام الموقف الإسلامي السياسي، كانت الاستجابة داعية إلى المفاصلة مع تلك النظم السائدة التي لا تتيح للدعوة الإسلامية السياسية فرص التعبير، فظهر فكر أبو الأعلى المودودي وسيد قطب. ومن هنا يتضح أن الفكر هو حصيلة استجابات تاريخية، كما هو حصيلة تراكمات تاريخية، ومن ثم يجب النظر إلى استجابات مدرسة الاعتدال على أنها حصيلة استجابات لحاجات تاريخية واجتماعية، ومن ثم فالاختلاف الفكري أساسه خلاف الزمان والمكان، والإدراك للحاجة والمشكل الاجتماعي والسياسي.

البنية التحتية في السياسة

تحدث الكتاب عن البنية التحتية في السياسة، وأكد الحاجة إلى إصلاح الصيغ الفكرية بين الناس التي تمكن الجماعات والأفراد أن تجد لنفسها موضعا رحبا للتعبير عن نفسها وهي آمنة، كذلك تصميم التكوينات التنظيمية وبناء القنوات المستوعبة لحركة المجتمع السياسية والاجتماعية. وهذا يفرض إنهاء وضع التبعية التي تولدت وترسخت منذ القرن التاسع عشر مع حركة الاستعمار الغربي للمنطقة، كذلك يفرض إنهاء حالة التجزئة التي أفسدت كل جهد ورغبة في النهوض والتقدم، حيث جرى ترسيخ التجزئة بكافة صورها على مدار القرنين الماضيين، وهي الوجه الظاهر للتبعية.

ورغم أن حركة التحرر الوطني التي حققت الاستقلال لم تقطع وثائق التبعية تماما، إلا أنها لم تستطع أن تفرض الوحدة بين تلك الشعوب، إذ إن الاستعمار لم يحكم المنطقة إلا من خلال التجزئة، ويثبت الواقع أن المشيئة الوطنية لها محدداتها العسكرية والاقتصادية، لذلك عمل الاستعمار على تركيب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في كثير من الدول في إطار من الخلخلة، وهو ما يجعل كل عنصر قد وضع بطريقة تجعله عنصر إضعاف وليس عامل قوة. كما أن هناك حالة صراع داخل المجتمعات، فما من قضية إلا وتجد حولها انقساما مجتمعيا وفكريا، حتى صار الانقسام هو الحاكم لمجمل التفاعلات، فالانفصام والتشرذم والتفتت لا تقوم معه وحدة ولا نهوض ولا استقلال ولا تحرر، ولعل الخلاف راجع إلى تعدد المقاييس داخل المجتمع الواحد، وهو ما يخلق الخلاف العميق، فالخلاف يتعلق بالميزان الذي توزن به القضايا والأمور، وهو ما يبدد القوى والجهود ويعدد الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وأشار الكتاب إلى أن استيراد بعض النظم المستحدثة من بيئة مغايرة بقصد الإصلاح يؤدي إلى نتائج مغايرة تماما، فبعض الأنظمة التي جاءت لتقييد السلطة جعلت السلطة تنطلق من عقالها، فمثلا كان في مصر لكل حرفة شيخها وتنظيمها الخاص بها، وعندما جاء محمد علي باشا، أوجد تغيرات في الأنظمة الإدارية أدت إلى حل تلك الطوائف، وقد كانت تلك الطوائف من أهل الحرف والتجارة لها استقلالها عن الحاكم، وبقدر هذا الاستقلال كانت تتمتع بحريتها، بل استطاعت أن تتصدى له في بعض الفترات رعاية للطائفة التي تمثلها، لكن إخضاعها للنظام الديواني الذي أنشأه محمد علي أضعف تلك الطوائف، وقوى السلطة في مواجهتها. ومثال آخر هو أن عمليات الإصلاح التي جرت في الدولة العثمانية غلبت عليها الصيغة الاستبدادية والمركزية في الإصلاح، وبرغم ما حققته إلا أنها أطلقت استبداد السلطان إلى أقصاه بعد إزاحة مراكز القوة التقليدية داخل الدولة التي كانت تعترض تفرده الكامل بالسلطة، فجاء إصلاح الجيش وفق النظم الغربية الحديثة ليمكن السلطان من امتلاك الأسلحة الفتاكة لمواجهة خصومه ومنافسيه والقضاء عليهم أكثر من قدرته على مواجهة الأطماع الغربية، فعزز السلاح الاستبداد، ولم يقاوم الغزو.