في الفصل الثاني من الكتاب (حول منهج التفكير الإسلامي) يرصد المؤلف الملامح العامة لمنهج التفكير الإسلامي، ويعرض لبعض البنود التي يوجبها هذا المنهج ليكون ثمة تفكير مستقيم، ثم يأتي حديث في ختام الفصل عن أحد لوازم منهج التفكير المذكور وهو التجديد، وذلك انطلاقا من أن تعليم المنهج الصحيح يعني علاج أصل الداء لا أعراضه؛ فغياب المنهج هو أصل الداء، والأفكار الخاطئة مظاهر هذا الداء.

أولا: ملامح منهج التفكير الإسلامي:

يحصرها الكاتب في أحد عشر ملمحا:

الملمح الأول:

هذا المنهج ليس خاصا بالعلماء والمجتهدين، وإن كان العلماء والمجتهدون يمارسونه في مستوى عميق، ويمارسه المسلم المثقف حسب مستوى ثقافته، حتى الرجل العامي له في هذا المنهج قدر يناسبه من الممارسة، مثال:

1. مصادر التشريع: الكتاب والسنة والإجماع والقياس (هو لا يمارس القياس بالذات لكنه يعلم أن العلماء يقيسون ويفهم المعنى العام للقياس).

2. التمييز بين الفرائض والنوافل أو بين الواجب والمندوب، وتقديم الأول على الثاني.

الملمح الثاني:

أن لهذا المنهج مصادر للمعرفة، ووسائل تحصل بها هذه المعرفة، فأما المصادر فهي:

1. الوحي، وهو مصدر لبعض المعلومات عن الكون المحيط بنا، وهو قبل ذلك مصدر وحيد لكل عقائد الدين وشرائعه...

2. الكون... ويشمل عالم الطبيعة وعالم الإنسان، فمن الدراسة الفيزيقية نعرف عالم الطبيعة، ومن الدراسات الأحيائية والأنثروبولجية نعرف الكثير عن عالم الإنسان.

وسائل تحصيل المعرفة هي:

- الحس.

- العقل.

وهما يتعارضان ويتكاملان في معظم الأحوال، على أنه يحصل العقل بمفرده بعض المعارف (النظرية). وهنا يؤكد المؤلف أن "منهج البحث وتحصيل المعرفة هو:

- منهج أصول الفقه والقواعد الفقهية: (وهو المنهج الموصل لحقائق الوحي) للبحث في كلمات الوحي باعتباره مصدرا للمعرفة.

- منهج البحث العلمي التجريبي: (وهو المنهج الموصل لحقائق الكون) للبحث في الكون باعتباره مصدرا للمعرفة.

الملمح الثالث:

عماد المنهج الإسلامي في التفكير ومحوره الأساسي هو عقيدة التوحيد، والتوحيد ليس مجرد قيمة عقدية "إستاتيكية" جامدة، بل هو يثمر رؤية للكون المحيط بالإنسان، كما يثمر فلسفة للحياة بصفة عامة، وفلسفة لحياة الإنسان بصفة خاصة.

الملمح الرابع:

يؤمن هذا المنهج بأنه لا صلاح للدولة إلا بصلاح الرأس، ولا صلاح للرأس إلا إذا كان فيها بقية من أولي الرأي والعزم يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع إلا مع مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام باختلاف أحوال الزمان والمكان، وزماننا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية والصناعية والتجارية، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية وبالشركات أمورها المادية كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها وتقيمها على صراط شريعتها.

الملمح الخامس:

يعتمد هذا المنهج التكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة؛ فينبغي استحضار قيم الشريعة أثناء دراسة الإنسان، ودراسة الإنسان واستحضار خصائصه أثناء دراسة الشريعة. وإذا كان هذان العالمان تقف الشخصية الغربية الحديثة عند أحدهما فقط (عالم الشهادة) فإن الشخصية المسلمة تضيف عالما آخر وهو عالم الغيب.

الملمح السادس:

شرع الله هو الكتاب والسنة، وأما أقوال الفقهاء والعلماء ففيها الصواب والخطأ مهما عظموا.

وقد فهم أهل العلم في الإسلام هذا جيدا، وعبروا عنه بأقوالهم وأفعالهم، فقد أتى زيد بن ثابت قوم فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها، ثم قالوا لو أخبرناه (أي بكتابها) فأتوه فأخبروه فقال "عذرا لعل كل شيء حدثتكم به خطأ إنما أجتهد برأيي".

ومن ثم "تكون أقوال الرجال تشريع أرباب عندما نمضيها أبدا وبإطلاق، وهي صفة خاصة للتشريع الإلهي، أما الاجتهاد فهو اجتهاد لزمانهم ومكانهم".

الملمح السابع:

التجديد بالمفهوم الإسلامي, يعني تنزيل قيم القرآن والسنة على الواقع في كل عصر, أي واقع الزمان والمكان, وهذا دور العلماء ورثة الأنبياء للقيام بهذا الواجب والعمل النبوي الراشد, إذ بدون يضيع هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا العمل كما أنه يثمر استقامة المسلمين على أمر الله وشرعه, فإنه يثمر أيضا البيان الواضح لرسالة الله إلى العالمين.

الملمح الثامن:

أن هذا المنهج لا يفصم العلاقة بين الفكر والخلق، بل إن للفكر فيه أخلاقا يلزمها. إن ثمة تفاعلا بين الفكر والخلق يظهر في صورة التفكير الإسلامي والخلق الإسلامي:

الإخلاص في طلب الحقيقة. والتنزه عن الغرض، مما يثمر التحري الدقيق والدائب. والإخلاص العقلي هو اتباع منهج الله ونحن نقصد وجه الله. وهذا ما يسميه جودت سعيد الإخلاص والصواب. والإخلاص دون الصواب عمل فاسد غير مفيد. والصواب دون إخلاص عمل غير مقبول من الله.

الملمح التاسع:

أن الخشوع من أدوات التفكير أو العلم. جاء في الحديث: (... وهل تدري ما رفع العلم؟ قال: قلت لا أدري، قال: ذهاب أوعيته، وهل تدري أي العلم أول ما يرفع؛ قال: قلت لا أدري، قال الخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعا" (رواه أحمد والترمذي وحسنه).

الملمح العاشر:

أن منهج التفكير الإسلامي والمستوى النفسي يتبادلان التأثير؛ حيث يحظى المستوى النفسي للمؤمن باهتمام رفيع من دينه، فهو صاحب نفس مطمئنة، وهذا السلام ثمرة عدة عوامل منها: عقيدة التوحيد، والعبادة الخاشعة، والتوكل على الله...

الملمح الحادي عشر:

الإلحاح على النظر وإعمال العقل وحسن الفهم والفقه والحكمة..

"إن التفكير الإسلامي يجمع بين العقل والوحي، وقد تكرر ذكر الكتاب والحكمة في القرآن، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، أي لابد مع النص من عقل ذكي واع يضع الشيء موضعه، ويحسن فهم النص، كما يحسن إدراك الواقع، فيحسن تنزيل النص على الواقع، فيصلح الواقع ويستقيم على أمر الله.

وإعمال العقل مع النقل لابد أن تصحبه معرفة جيدة "بالنقل"؛ ليحسن المسلم فهم النص، وإدراك الواقع، وتنزيل النص على الواقع".

وهنا يشير المؤلف إلى أنه "لابد من تحديد ما هو اختصاص الوحي، وما هو اختصاص العقل، فكما يمكن أن يتعدى العقل حدوده، ويخوض في أمور هي من اختصاص الوحي كالعقائد الغيبية والعبادات والأخلاق، كذلك يمكن أن يتعدى الوحي، -على يد المتدين الجاهل أو المتزمت أو المغالي- حدوده، ويخوض في أمور هي من اختصاص العقل، كتفاصيل العلوم الإنسانية والمادية والصناعات والنظم".

ثانيا: من واجبات منهج التفكير الإسلامي:

يتحدث الكتاب هنا عن سبعة واجبات:

الواجب الأول:

معرفة مصادر التشريع معرفة إجمالية، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

الواجب الثاني:

معرفة بعض القواعد الفقهية والأصولية وتطبيقاتها في موضعها، ويمثل بست عشرة قاعدة، يجمل بعضها مثل: (لا ضرر ولا ضرار- الضرورة تقدر بقدرها- تحمل المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة...) ويفصل بعضها مثل: (الأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- يثبت لغيره حتى يتضح التخصيص) فذكر أن هذا يرد به على مدعي أن حديث كذا وواقعة كذا واقعة عين لا عموم فيها...

الواجب الثالث:

مراعاة الأولويات، وهي تعني أن الفرائض مقدمة على النوافل والضروريات مقدمة على الحاجيات، والضروريات والحاجيات نفسها تخضع للأولويات، والحاجيات مقدمة على التحسينات...

الواجب الرابع:

التبيين، ومن شروطه طلب الدليل والقدرة على الترجيح وتنزيل النص على الواقع.

الواجب الخامس:

تحقيق التفاعل والتكامل بين النص والواقع.

ومعرفة الواقع توجب التعامل الإيجابي مع السنن الاجتماعية وذلك بالدراسة العلمية الميدانية لكل ظاهرة ثم رسم خطة لعلاج الظاهرة.

الواجب السادس:

مراعاة أثر الزمان والمكان في الفتوى والأحكام.

فلابد للمفتي والمفكر من مراعاة أثر الظروف المحيطة في الأحكام والفتاوى لأن الله لم يجعل الأزمان قالبا واحدا يمكن أن نطبق فيها جميعا أحكاما واحدة، ومراعاة اختلاف الزمان والمكان يستدعي المحافظة على القواعد الأصولية والفقهية التالية: (المشقة تجلب التيسير، الضرورات تبيح المحظورت، الحاجات قد تنزل منزلة الضرورات، قصد أكبر المصلحتين عند التعارض، اجتناب أكبر الضررين عند إمكانية دفع هذا الضرر).

الواجب السابع:

مراعاة قواعد استنباط الأحكام مثل التمييز بين المطلق والمقيد وبين المجمل والمفصل وبين المنصوص والمفهوم… مع استقراء النصوص والتجربة العملية التي يلجأ فيها الباحث إلى التدخل في مجرى الظاهرة حتى يكشف عن القوانين الخفية التي لم تمكنه الملاحظة من الكشف عنها.

ثالثا: التجديد:

التأصيل الشرعي للتجديد:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) وللحديث تطبيقات كثيرة: فالغزالي ألف "إحياء علوم الدين" أي تجديد علوم الدين، وإقبال يؤلف "تجديد الفكر الديني" ومعنى ذلك تجديد عرض أصول الدين –منزلة على واقع العصر وقضاياه- بالبحث والتحري، بعد أن علاها غبار كثيف من أقوال الرجال وأخطاء الرجال وأهواء الرجال.

التجديد والتغريب:

وفي هذا السياق يتجه الكاتب إلى إزالة الالتباس بين التجديد والتغريب، فالتجديد هو الأصالة الحقيقية، والتغريب أصالة مزيفة، ووراءه عجز وغفلة وقصور وهروب، فهو تقليد لكن للغرب. وهنا يؤكد الكاتب حاجتنا "إلى ترشيد الفكر التقليدي وتصحيحه، وحاجتنا إلى التطهر من الفكر التغريبي" ويرى "التطهر هنا ضرورة، لأنه حدث تلوث في الجذور والأعماق، وعند التقليد الذي يركز على السلف تبقى الجذور نقية طاهرة، ويتركز الخلل في أدوات التعامل مع الجذور".

مكانة التراث في عملية التجديد:

إن التجديد كي يكون عن أصالة وعن وعي لابد أن يسبقه ويدعمه دراسة جادة متذوقة وناقدة في آن واحد للتراث القديم، والتراث هنا -كما سبق- ليس القرآن والسنة، ولكنه الاجتهادات التي دارت حولهما، فالقديم لبنة أصيلة في أساس البناء التجديدي أو بناء الجديد.

أقوال منهجية لأئمة الإسلام:

وتحت هذا العنوان ينقل الكاتب -من داخل تراث السلف- بعض الأقوال التي تحدد لمنهج التجديد أبعاده وتضع التقليد في مكانته الضئيلة التي يستحقها فينقل عن أبي حنيفة: (إذا صح الحديث فهو منهجي- لا يحق لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه- حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي- إننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا...).

وينقل عن مالك بن أنس: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظرو في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه...).

تطبيق الشريعة والتجديد:

نحن في حاجة إلى تجديد الدين قبل تطبيق الشريعة، في الحديث: «... وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا»، رواه مسلم. يقول الكاتب: "هذا يعني أن كل الأحكام التي بحاجة إلى استنباط من النص تحتمل الصواب والخطأ، وهذه لا يجوز لنا أن نطلق عليها حكم الله وإنما هي أحكامنا نحن وهي الأقرب إلى حكم الله ظنا".