يرى المفكر الإسلامي محمد عمارة، أن النظرة الإسلامية -في حقوق غير المسلمين- بلغت آفاقا لم تعرفها ديانة من الديانات، ولا حضارة من الحضارات قبل الإسلام، وأن الإسلام منذ ظهوره وتأسيس دولته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرر حقوق الناس كاملة، باختلاف توجهاتهم وعقائدهم، وجعل لهذه الحقوق قداسة دينية سماوية، يستحيل قيام الدين إلا بها، وليست منحة تتغير بتغير الحاكم، أو اختلاف الزمان والمكان، وأوضح أن دستور هذه الدولة المتمثل في - الصحيفة – بين المؤمنين واليهود، والعهد الدستوري الذي كتبه رسول الله صلَّى الله عليه لنصارى نجران، مثلَا التجسيد والتقنين لكامل الحقوق والواجبات للرعية المتنوعة دينيا داخل المدينة، وأن هذه الحقوق التي أقرها الإسلام إنما هي ضروريات، لا يمكن الاستغناء عنها ولا المساومة عليها، وكذلك الواجبات المتمثلة في صدق انتماء الإنسان، وكمال ولاءه للوطن، واحترام هويته والدفاع عن لغتها وتاريخها وقيمها وآدابها العامة، وألا يكون أحد من رعية هذا الوطن، عينا لأحد من الأعداء المحاربين للمسلمين، ولا معاونا لأهل الحرب علي المسلمين، بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غير ذلك، وأن يكتموا أسرار المسلمين ولا يظهروا العدو علي عوراتهم.
وتتمثل الحقوق التي كفلها الإسلام لغير المسلمين في عناصر عدة، جمعها عمارة في حقوق أربع بمفهومها الواسع الشامل وهي:-
حق المساواة بمفهومها الواسع
قد سبق الإسلام كل الاتفاقيات والمعاهدات التي نصت عليها حقوق الإنسان، وحرص من أول يوم على تحقيق المساواة بين الناس، وجعله مبدأ أساسيا، دون تمييز على أساس الأديان والألسنة والألوان، مما يعني أن الأمة الإسلامية تأسست على التعددية الدينية.
يتسع مفهوم المواساة في الإسلام، ليشمل المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعل الأمة والشعب جسدا واحدا، وكذلك المساواة أمام القانون بدون تمييز من ناحية المولد والوراثة واللون والمعتقد، ليجسد قول مؤسس دولة الإسلامية الأولى صلى لله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى"،
ويؤكد على حق المساواة بين سكان الدولة، وفي حال أي عدوان خارجي على غير المسلمين مساندة المسلمين في قتالهم والدفاع عنهم، كما يركز على نقطتين أساسيتين، الأولى تتعلق بأمر العقيدة أي أن كل إنسان يتحمل مسؤوليته أمام الله وليس الدولة، ثانيا في الأمور الدنيوية أي كل مواطني المدينة متساوون في الحقوق والواجبات، فالنقطة الأولى أسست مفهوم الحرية الدينية، والنقطة الثانية وضعت مبدأ المسؤولية وتساوي المواطنين أمام الحكومة.
حق العدل الشامل
إن العدل في الإسلام فريضة، وليس مجرد حق، فهو المقصد الأول للشريعة الإسلامية، وهو اسم من أسماء الله الحسنى وكفى بذلك رفعة لهذا الحق الأصيل، ويعني العدل في الإسلام، تحقيق الإنصاف بإعطاء كل إنسان ماله، وأخذ ما عليه منه، ومجاوزة العدل هي الظلم بعينه، فإن وقع في حق العقيدة كان شركا، وإن وقع في حق إنسان كان ظلما، وتعددت آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر به، والتحذير من الإتيان بضده "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة"، ولا يجوز لإنسان أن يتنازل عن حقه في العدل، وإلا صار ظالما لنفسه، وتلك في الإسلام جريمة كبرى، إن الإسلام يعتبر العدل هو الميزان الذي أنزله الله في الكتاب لتستقيم شئون الحياة، والذي أمر الله به الكافة أن يقيموه في الكافة وللكافة، الرسول والأمة، المؤمنين والكافرين، الأصدقاء والأعداء.
وحدود العدل في الإسلام لا تقف عند القانون، وإنما يمتد ليشمل الحياة المادية والاجتماعية، والثروات والأموال، بضابط الشريعة التي هي بنود عقد وعهد استخلاف الله للإنسان في الأرض وما وهب فيها سبحانه من نعم.
ومن شمولية العدل في الإسلام، عدل الحاكم في الرعية، وعدل القضاة في المحاكمين، وعدل الإنسان في بيته وعمله وميادين حياته، والناظر في الواقع يجد أن الأوطان اليوم تضم بين حدودها أجناسا مختلفة، وعقائد متنوعة، ومكونات قومية وطائفية متنوعة، يجمعهم جميعا ويوحدهم نظام المواطنة القائم على التعايش فيما بينهم إخوة في الوطن، وإن التأصيل الشرعي لذلك يقوم على العدل والإحسان والمصالح المشتركة للبلاد والعباد.
احترام عقيدتهم ودور عبادتهم
هذا ما قرره الإسلام، وترجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمليا في معاهداته، وصحيفة المدينة وعهد نصارى نجران، واحترام عقيدة غير المسلمين يوجب حفظ حياتهم، وضمان سلامتهم، وحماية جانبهم والذب عنهم، وعن كنائسهم ومعابدهم، وعن بيوتهم، وبيوت صلواتهم أينما كانت، حتى إن الإسلام لما شرع للمسلم الزواج من الكتابية، اشترط عليه احترام عقيدتها الدينية، فلا تكره المرأة على الزواج، ولا يكره عليه أهلها، ولا يكون إلا عن طيب نفس، ورضا قلبي كامل، ومتى صارت الكتابية زوجة له، وانتقلت إلى بيته، وجب عليه أن يرضى بنصرانيتها، ويترك لها مساحة الأخذ بمعالم دينها، ولا يمنعها عن ذلك، فإن منعها فقد خالف عهد الله، وعصى ميثاق رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو عند الله من الكاذبين، وكذلك أوجب الإسلام احترام دور عبادتهم، ومساعدتهم في ترميمها إن احتاجوا إلى ذلك، ولا يكون ذلك دَينا عليهم، بل هو إعانة لهم على مصلحة دينهم.
حق الحرية
بدون الحرية الكاملة لن يكون هناك تدين حقيقي ولا إيمان كامل، لأن الإكراه يصنع المنافقين، وقد نفى القرآن الإيمان مع الإكراه "لا إكراه في الدين"، ونهى على الإكراه على الدين، وقررت مواثيق المساواة كامل الحرية الدينية فنصت على أنه لا يجبر أحد على ملة أخرى كرها على الدخول في الإسلام، ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه حيثما كانوا وأينما كانوا من البلاد، لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
لذا كانت غاية الفتوحات الإسلامية، زوال القهر والظلم عن كاهل الشعوب، فقد حقق الفتح الإسلامي لغير المسلمين نوعا من الحرية والاستقلال المدني، يقول البطريرك السرياني ميخائيل الأكبر: "لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا أبناء إسماعيل – (العرب المسلمون) – لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية وعشنا في سلام، فالفتوحات الإسلامية كانت إنقاذا لشعوب الشرق وديانتها، فتحت أمام هذه الشعوب أبواب الحرية الدينية والاجتماعية جميعا"، ولقد صدّق المستشرق الإنجليزي سير توماس أرنولد على ذلك فقال في كتابه -الدعوة إلى الإسلام-: "إنه من الحق أن نقول إن غير المسلمين قد نعموا بوجه الإجمال في ظل الحكم الإسلامي، بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلا في أوربا قبل الأزمنة الحديثة".
والحرية بمفهومها الواسع تشمل الحرية الاجتماعية والاقتصادية في ممارسة العمل والمهن، مع الحرية الدينية، فقد كان النصارى قبل الإسلام يدفعون عشرات الضرائب فرفع الإسلام عن جاهلهم كل هذا، وجعل الضريبة على خراج الأرض الزراعية، يستوي فيها المسلم وغير المسلم، وجعل ضريبة الرأس -الجزية- يدفعها القادر على حمل السلاح والكسب من غير المسلمين، فإذا خدم في الجندية سقطت عنه، ويعفى منها رجال الدين المتمثلين في القساوسة والرهبان، والنساء والشيوخ والأطفال، ومنح الإسلام بهذه الحرية للناس أن تدرك الحقائق التي طمستها الأنظمة الفاسدة المستبدة، وارتقى بالجنس البشري كله، إذ أتاحت الحرية للناس التفاعل والتعرف على ثقافات بعضهم وتفكيرهم، وكل ذلك في النهاية يسهل مهمة الإنسان في التعرف على الحق وعمارة الأرض.
هذه الحقوق بمفهومها الواسع شملت كافة الحقوق التي تحدث عنها الكثير من المفكرين والعلماء قديما وحديثا، وبينت عظمة الإسلام ورقيه في معاملة غير المسلمين في دولته وتحت حكمه.