إرادة الأمة في الحكم عند مدرسة الاعتدال (1-2)
نتناول في حلقتين موقف مدرسة الاعتدال من"إرادة الأمة" في مسألة الحكم, وهو ما يتضمن بدوره, الموقف الفكري المبدئي من الحكومة, ومن طبيعة وظائف الحاكم ومسؤولياته الاجتماعية والسياسية من خلال الخبرة التاريخية التي تعتقد فيها مدرسة الاعتدال من ناحية, ثم الموقف المعاصر من الحكم النيابي والدستور ومكونات الشكل السياسي بصفة عامة, وذلك من خلال قراءة في رسالة (مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي.. نظام الحكم) التي ألقاها الإمام الشهيد حسن البنا على الإخوان المسلمين في بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
الحكومة في الإسلام
يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس، فهو لا يقر الفوضى، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه), كما قال في حديث آخر لبعض أصحابه كذلك: (إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلا). فمن ظن أن الدين – أو بعبارة أدق الإسلام – لا يعرض للسياسة، أو أن السياسة ليست من مباحثه، فقد ظلم نفسه، وظلم علمه بهذا الإسلام ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وجميل قول الإمام الغزالي رضى الله عنه: (اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع) فلا تقوم الدولة الإسلامية إلا على أساس الدعوة، حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها, كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها. وأول خطئنا أننا نسينا هذا الأصل ففصلنا الدين عن السياسة عملياً, وإن كنا لن نستطيع أن نتنكر له نظرياً فنصصنا في دستورنا على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام, ولكن هذا النص لم يمنع رجال السياسة وزعماء الهيئات السياسية أن يفسدوا الذوق الإسلامي في الرؤوس، والنظرة الإسلامية في النفوس, والجمال الإسلامي في الأوضاع، باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائما بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة، وهذا أول الوهم وأصل الفساد.
دعائم الحكم الإسلامي
والحكومة في الإسلام تقوم على قاعدة معروفة مقررة، هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي.. فهي تقوم على مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال.
الموقف من الحاكم:
فالحاكم مسؤول بين يدي الله وبين الناس، وهو أجير لهم وعامل لديهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، وأبو بكر رضى الله عنه قال: عندما ولي الأمر وصعد المنبر: (أيها الناس، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، فأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم).. وهو بهذا قد فسر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير، بل هو وضع أساسها في الإسلام, فطبيعة الحكومة في الإسلام ما هي إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة, فإذا الحاكم أحسن فله أجره, وإن أساء فعليه عقابه.
وحدة الأمة:
والأمة الإسلامية واحدة, لأن الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها ولا يتحقق إلا بوجودها، ولا يمنع ذلك حرية الرأي وبذل النصح من الصغير إلى الكبير، ومن الكبير إلى الصغير، وذلك هو المعبر عنه في عرف الإسلام ببذل النصيحة، والأمر المعروف النهى عن المنكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال: (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها)، وفي رواية: (وبطن الأرض خير لهم من ظهرها)، وقال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله). ولا تكون الفرقة في الشؤون الجوهرية في الأمة الإسلامية، لأن نظام الحياة الاجتماعية الذي يضمها نظام واحد هو الإسلام، معترف به من أبنائها جميعاً، والخلاف في الفروع لا يضر، ولا يوجد بغض ولا خصومة ولا حزبية يدور معها الحكم كما تدور.. ولكنه يستلزم البحث والتمحيص والتشاور وبذل النصيحة, فما كان من المنصوص عليه فلا اجتهاد فيه وما لا نص فيه فقرار ولي الأمر يجمع الأمة عليه.
احترام إرادة الأمة:
ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها, وأن يأخذ بالصالح من آرائها, وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159). وأثنى به على المؤمنين خيرا فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38). ونصت على ذاك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.. فكانوا إذا جاءهم أمر جمعوا أهل الرأي من المسلمين واستشاروهم ونزلوا عند الصواب من آرائهم، بل إنهم ليندبونهم إلى ذلك ويحثونهم عليه، فيقول أبو بكر رضى الله عنه: (فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني أو قوموني), ويقول عمر بن الخطاب: (من رأى فيّ اعوجاجاً فليقومه). (والنظام الإسلامي) في هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحكم صالحاً بدونها, ومتى طبقت تطبيقاً يحفظ التوازن ولا يجعل بعضها يطغى على بعض, ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم، وأن في المحافظة عليها وصيانتها الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو ما يعبرون عنه في الاصطلاح الحديث (بالوعي القومي) أو النضج السياسي أو (التربية الوطنية) أو نحو هذه الألفاظ، ومردها جميعاً إلى حقيقة واحدة هي اعتقاد صلاحية النظام، والشعور بفائدة المحافظة عليه، إذ النصوص وحدها لا تنهض بأمة كاملة كما لا ينفع القانون إذا لم يطبقه قاضٍ عادل نزيه.
مسؤولية الحاكم
ولقد تحقق هذا النظام بأكمل صورة في عهد الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فكانوا يشعرون أتم الشعور بالتبعات الملقاة على كواهلهم كحكام مسؤولين عن رعاياهم، ويظهر ذلك في كل أقوالهم وتصرفاتهم وحسبك أن تقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين ولي الخلافة، وعمر بن عبد العزيز حين وليها كذلك, وجاءت سيرتاهما مطابقتين لقولهما: (أيها الناس قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم اضطلاعا بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم، وكفى عمر مُهماً محزنا انتظار موافقة الحساب، يأخذ حقوقكم، كيف آخذها وأين أضعها، وبالسير منكم كيف أسير، فربى المستعان)، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده، وكان يقول: (لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب). وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: (أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي, ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب, ألا ما أحل الله عز وجل حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة، ألا لست بقاض ولكنني منفذ، ألا إني لست بخيركم ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً).. وقدمت إليه مراكب الخلافة بعد دفن سليمان بن عبد الملك فأمر بتأخيرها، وركب بغلته وعاد إلى منزله، فدخل عليه مولاه مزاحم فقال: يا أمير المؤمنين لعلك مهتم؟ فقال: (بمثل هذا الأمر الذي نزل بي اهتممت، إذ ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحد إلا له قبلي حق يحق علي أداؤه إليه، غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني).
وكانت الأمة مجتمعة الكلمة باستمساكها بأهداب الدين، واعتقادها فضل ما جاء به من أحكام، ورعايتها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده في الوحدة حتى أمر بقتل من فارق الجماعة أو خرج على الطاعة، فقال: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان)، كما قال: (من خرج على الطاعة وخالف الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي ذا عهد عهده، فليس مني ولست منه). كما كانت إرادتها محترمة مقدرة، فما كان أبو بكر يمضي في الناس أمراً إلا بعد أن يستشيرهم وخصوصاً فيما لا نص فيه، وكذلك كان عمر بن الخطاب، فقد جعل الخلافة من بعده شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.