موقف مدرسة الاعتدال من النظام النيابي والدستور (2-2)

 نستكمل هنا الحلقة الثانية من موقف مدرسة الاعتدال من إرادة الأمة, وما ارتبط بها من أشكال سياسية ظهرت في العصر الحديث, وكنا قد تناولنا في الحلقة السابقة رؤية مدرسة الاعتدال من واقع الخبرة الإسلامية في هذه القضية, وأهم ما جاء فيها: أن الحكومة قاعدة أساسية أقرها الإسلام للتنظيم الاجتماعي للناس. وأن التجربة الإسلامية الأولى وضعت أصول التعاقد بين الأمة والحاكم. ونتناول في هذه الحلقة موقف رواد مدرسة الاعتدال من بعض الأشكال السياسية المعاصرة للحكم, وهي الموقف من النظام النيابي (1)

 مسؤولية الحاكم في الدستور المعاصر

يقول علماء الفقه الدستوري إن النظام النيابي يقوم على "مسؤولية الحاكم وسلطة الأمة"، واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه من وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست الفرقة والخلاف شرطاً فيه, وإن كان بعضهم يقول إن من دعائم النظام النيابي البرلماني: الحزبية, ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا في قيم هذا النظام, لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية.

وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيداً عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه, وبهذا الاعتبار يمكن أيضاً أن نقول في اطمئنان: إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري مثلا لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة عن النظام الإسلامي ولا غريبة عنه, بل إن واضعي الدستور المصري رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها، فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية، فهي إما متمشية معها صراحة كالنص الذي يقول: (دين الدولة الإسلام) أو قابلة للتفسير الذي يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذي يقول: (حرية الاعتقاد مكفولة).

وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التي تسير عليها المحاكم؛ إذ إن كثيراً من هذه القوانين يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام، وذلك بحث آخر سنعرض له في موضعه إن شاء الله.

ومع أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، فإننا نصرح بأن هناك قصورا في عبارات الدستور، وسوءاً في التطبيق، وتقصيرا في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور، أدت جميعاً إلى ما نشكو منه، وإلى ما وقعنا فيه من اضطراب في الحياة النيابية.

وبعد هذا الإيجاز، إليك أيها القارئ الكريم شيئا من البيان.

الوزارة

فأما عن مسؤولية الحاكم فإن الأصل فيها في النظام الإسلامي أن المسؤول فيها هو رئيس الدولة كائنا من كان، له أن يتصرف، وعليه أن يقدم حساب تصرفه للأمة، فإن أحسن أعانته، وإن أساء قومته، ولا مانع في الإسلام أن يفوض رئيس الدولة غيره في مباشرة هذه السلطة وتحمل هذه المسؤولية، كما عرف ذلك في (وزارات التفويض) في كثير من العهود الإسلامية، ورخص الفقهاء المسلمون في ذلك وأجازوه ما دام فيه مصلحة، والقاعدة في مثل هذه الأمور رعاية المصلحة العامة، قال الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية: 

(والوزارة على ضربين، وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ، فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها على مقتضى اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طِه:29-32) فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، لأن ما وكل إلى الإمام من تدبير أمر الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر بها على نفسه، وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل.

والأصل في هذه المسؤولية في النظام النيابي أن المسؤول هو الوزارة، قبل رئيس الدولة -وقد جرى على هذا الدستور المصري والدستور الإنجليزي- فصرح كل منهما بمسؤولية الوزارة، وإخلاء رئيس الدولة من كل مسؤولية واعتباره لا يخطئ، واعتبار ذاته مصونة لا تمس.

على أنه لا مانع في النظام النيابي من تحمل رئيس الدولة المسؤولية واعتبار الوزارة تابعة له في ذلك، كما يقرر ذلك دستور الولايات المتحدة.. والغريب أن تشير كتب الفقه الإسلامي إلى هذا الوضع أيضاً، وتسمى هذه الوزارة (وزارة التنفيذ) فيقول الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) أيضا: "وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف، وشروطها أقل، لأن النظر مقصور فيها على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدى عنه ما أمر، وينفذ ما ذكر ويُمضي ما حكم..." ولا شك أن هذا من سعة مادة الفقه الإسلامي ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

وحدة الأمة

أما عن وحدة الأمة فقد أبنت أن الإسلام الحنيف يفترضها افتراضاً, ويعتبرها جزءاً أساسياً في حياة المجتمع الإسلامي لا يتساهل فيه بحال, إذ إنه يعتبر الوحدة قرين الإيمان (إنما المؤمنون إخوة), كما يعتبر الخلاف والفرقة قرين الكفر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران: 100) أي بعد وحدتكم متفرقين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض) فعبر بكلمة الكفر على الفرقة والخلاف وأن يضرب بعضهم وجوه بعض.

وأعتقد أن الحكم النيابي –برلمانيا وغير برلماني- لا يأبى هذه الوحدة, وبخاصة إن كان لون الحياة الاجتماعية واحداً في أصوله واتجاهاته العامة, كما هو شأن الأمة الإسلامية جميعاً في هذه الأيام, وإنما لازمت الحزبية والفرقة والخلاف هذا النظام النيابي في أوروبا وغيرها, لأنها نشأت على أنقاضها, وكانت الخلافات المتكررة الدامية بين الشعوب وحكامها هي السبب في نشأته فعلاً، مع تباين المشارب واختلاف الآراء... أما الأمم الإسلامية فقد حماها الله من ذلك كله, وعصمها بوحدة الإسلام وسماحته من هذا التبلبل والاضطراب.

ومع هذا فإن الحكم النيابي في أعرق مواطنه لم يقم على هذه الحزبية المسرفة, فليس في إنجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان فيها الأمر, وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة, وتجمعهما دائما المسائل القومية المهمة, فلا تجد لهذه الحزبية أثرا البتة, كما أن أمريكا ليس فيها إلا حزبان كذلك لا نسمع عنهما شيئا إلا في مواسم الانتخابات, أما فيما عدا هذا فلا حزبية ولا أحزاب, والبلاد التي أسرفت في الحزبية وفي تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها في الحرب والسلم على السواء, وفرنسا أوضح مثال لذلك.

وإذا كان الأمر كذلك, وكانت وحدة الأمة أساسا في النظام الاجتماعي الإسلامي ولا يأباه النظام النيابي فإن من الواجب أن نتحول سريعا إلى الوحدة بعد أن أهلكت الحزبية الحرث والنسل.

احترام رأى الأمة

إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمنينَ إذَا دُعُوا إلَى الله وَرَسُوله ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمعْنَا وَأَطَعْنَا

وأما عن احترام رأى الأمة, ووجوب تمثيلها واشتراكها في الحكم اشتراكاً صحيحاً، فإن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفرادها جميعاً في كل نازلة، وهو المعبر عنه، في الاصطلاح الحديث بالاستفتاء العام، ولكنه اكتفى في الأحوال العادية (بأهل الحَلّ والعقد) ولم يعينهم بأسمائهم، ولا بأشخاصهم، والظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن هذا الوصف ينطبق على ثلاث فئات، هم:

1 - الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.

2 - أهل الخبرة في الشؤون العامة.

3- من لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤوساء المجموعات.

فهؤلاء جميعاً يصح أن تشملهم عبارة "أهل الحَلّ والعقد".

ولقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة، والإسلام لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدى إلى اختيار أهل الحل والعقد، وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم تحديد الانتخاب صفات أهل الحل والعقد، وعدم السماح لغيرهم بالتقدم للنيابة عن الأمة.