في أحد المؤتمرات التي عقدت في القاهرة قبل ثورة يناير 2011، تحدث الكاتب اليساري العراقي "عبد الحسين شعبان" بأن الإسلاميين يجب أن يراجعوا أنفسهم تجاه بعض القضايا، منها: التعددية الحزبية، والموقف من تأسيس الأحزاب، وقضايا الأقليات والمرأة، فإذا بالمفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا يعلق عليه بأن بعض المثقفين توقفت متابعتهم وقراءتهم لما يجري من تطور فكري للحركة الإسلامية، منذ أكثر من عشرين عاما، لذا فهم لا يدركون المياه الجديدة والطازجة التي تجري في الجانب الفكري. والحقيقة أن تعليق "العوا" أمسك بموطن الوجع عند المثقفين من ذوي الاتجاهات غير الإسلامية، فهم لا يرون ولا يرغبون في رؤية التجديد، بل يودون أن يظل الجمود صفة لصيقة بذوي الاتجاهات الإسلامية. وفي هذا التقرير نناقش مسألة الحزبية في رؤى مدرسة الاعتدال في العصر الحديث.

وقبل البدء يجب التأكيد أن الظاهرة الحزبية حديثة في الشرق الإسلامي، وتولدت نتيجة حراك سياسي شعبي للمطالبة بالاستقلال الوطني، وتقييد الحكم الاستبدادي، فأول حزب نشأ كان "تركيا الفتاة" عام 1877م، وفي مصر كان الحزب الوطني الذي أنشأه الزعيم أحمد عرابي عام 1879م، ولعب دورا في التحضير للثورة العرابية، ثم توالى ظهر الأحزاب ذات الاتجاه الوطني، وأبرزها حزب الوفد 1919، وواجه الاستعمار والاستبداد هذه الظاهرة بإنشاء أحزاب تعبر عن مطالبه وتدعو لأفكاره.

البنا والأحزاب

يعتبر موقف الشيخ حسن البنا تجاه الحزبية من المواقف الملتبسة، فكثير من الكتابات توقفت عند رسالة المؤتمر الخامس عام 1939م التي دعا فيها إلى حل الأحزاب، واتخذ موقفا متشددا من الحزبية، لتعلن أن هناك موقفا معاديا من البنا للحزبية، رغم أن الأحزاب هي أحد الأسس الرئيسية في العملية الديمقراطية التي تكفل التنافس السلمي عبر صناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة. وتتغافل هذه الكتابات عن عدة أمور، في مقدمتها: أن البنا عند رفضه للحزبية استند في الرفض إلى جذر سياسي لا ديني، فأكد أنها أساس الفساد الاجتماعي، وأنها ليست لها برامج ولا مناهج، وأنها انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية، وأن مواقفها لا تعدو أن تكون بيانات، واستند البنا في رأيه الرافض للحزبية إلى عدة كتب سياسية ودستورية، ألفتها شخصيات ذات ثقل فكري، ومن الكتب التي استند لها البنا في حديثه: كتاب "مبادئ وطنية" لـكاتبه علوبة باشا, و"عيوب الحكم في مصر" لـحسن الجداوي، و"مبادئ القانون الدستوري" للفقيه الدستوري سيد صبري. وهؤلاء تحدثوا عن رفضهم للحزبية وانتقادهم للأحزاب المصرية في تلك الفترة، ومعنى هذا أن البنا لم يستند إلى آراء فقهية بجواز أو عدم جواز الحزبية، ولكن بنى موقفه على رؤية سياسية يشاركه فيها آخرون من الكتاب والمفكرين السياسيين والقانونيين.

كذلك فإن البنا كان يرى أن الأحزاب في البلد المحتل قد لا تكون مجدية، ويجب أن يكون هناك حزب واحد يعبر عن القضية الوطنية ويحقق الاستقلال، وهذه الرؤية تتقاطع مع نشأة حزب الوفد، ومساره السياسي قبل الانشقاقات التي تعرض لها، حيث كان الوفد يحصل على 90% من الأصوات في أي انتخابات ديمقراطية، وهو كلام ذو وجاهة من الناحية السياسية يلائم بلدا يسعى للاستقلال، فالوفد كان الممثل للوطنية المصرية، وبالتالي فالحزبية في رؤية البنا تجعل التنافس ليس على الاستقلال، ولكن للوصول إلى الحكم الذي سيكون تحت هيمنة الاحتلال ووفقا لقواعده التي تضبط العمل السياسي. ورغم ما قيل في هذه الرسالة من رفضه للحزبية، فإن البنا في نفس الرسالة صرح بأن "الإخوان" هيئة سياسية، وهو ما يعني أن موقفه ليس مبدئيا أو جامدا من الحزبية، أو هو موقف ديني، ولكنه موقف سياسي متغير يتعدل وفقا لتغير الظروف.

وقد تغير موقف البنا من الأحزاب تغيرا كبيرا، ويشير الباحث "عصام تليمة" (1) إلى أن الشيخ حسن البنا منذ العام 1946 ناقش مع مكتب الإرشاد فكرة أن ينضوي الإخوان تحت أحد الأحزاب القائمة القريبة من رؤى الإخوان، ووقع الاختيار على "الحزب الوطني" الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907، وكان السياسي فتحي رضوان أحد قياداته، وقد التقى البنا مع رضوان للتباحث في الأمر، وهو أمر تجدد النقاش فيه قبل استشهاد البنا بأيام. وهذا أيضا ما ذكره فتحي رضوان في أكثر من مقال من أن أحد التفهامات بينه وبين البنا عام 1948 خرجت ببنود واضحة في أن يتولى الحزب الوطني مسؤولية العمل السياسي، ويتفرغ الإخوان للدعوة، وهي رواية أكدها الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه "الإخوان أحداث صنعت التاريخ" وهو ما يعني أن موقف البنا من الحزبية والأحزاب كان موقفا سياسيا ووطنيا وليس رفضا دينيا للحزبية.

الحزب مطلب المعتدلين

لم يتخذ تيار الاعتدال بعد البنا موقفا مناهضا للأحزاب والحزبية، ولكن تطورت رؤيته وموقفه مع الانفتاح السياسي للسلطة، كذلك مع انفتاح تيار الاعتدال على الدراسات الاجتماعية والسياسية، وانضمام عدد من المفكرين من الاتجاهات الأخرى إلى مدرسة الاعتدال مثل: المستشار طارق البشري، والدكتور محمد عمارة، والأستاذ عادل حسين، وهؤلاء أحدثوا تغيرا حقيقا في موقف مدرسة الاعتدال من الحزبية. وقد تطور موقف مدرسة الاعتدال -على المستوى الفقهي والنظري- من السماح بالحزبية وفق المشروعية الإسلامية "بمعنى أن تلتزم هذه الأحزاب في برامجها بالأصول الشرعية للشريعة الإسلامية، فلا يسمح بقيام الأحزاب على أسس علمانية أو أحزاب لا دينية"(2) إلى الموافقة على إنشاء الأحزاب بلا قيد إلا ما أوجده الدستور، وذلك في إطار جهود مدرسة الاعتدال لمقاومة الاستبداد، الذي نظر إليه مفكرو المدرسة أنه أصل الداء الذي أصاب الأمة الإسلامية. والحقيقة أن فقهاء مدرسة الاعتدال -وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي، وكذلك الموقف الفقهي لجماعة الإخوان والذي تجلى في كتاب بعنوان "التعددية السياسية" الصادر عام 1992- رأوا عدم وجود مشكلة في تأسيس الأحزاب، وإن تحدثوا عن بعض التحفظات، إلا أن حركتهم على الأرض في الدعوة إلى الأحزاب وتأسيسها كانت أسرع من تأصيلهم الفكري والفقهي، وكان مصطفى مشهور مع التعددية الحزبية، وكتب مقالا مهما (3)، وكان نائب المرشد وقتها، أكد فيه أن الحزبية سواء أكانت إسلامية أو مسيحية لا يمكن أن ينجم عنها حرب دينية.

لكن فقهاء مدرسة الاعتدال في بنائهم لرأيهم الفقهي في الحزبية استندوا إلى "نظرية الضرر" ورأوا أن تأسيس الأحزاب وسيلة للأمة لدفع ضرر الملك العضوض الذي ابتليت به الأمة المسلمة في الكثير من فترات تاريخها، وهو استناد ذو وجاهة كبيرة لدى الأصوليين، وفي ذلك يقول الشيخ القرضاوي، في مقاله "جدلية تعدد

الأحزاب(4): "إن تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية أصبح وسيلة لازمة لمقاومة طغيان السلطات الحاكمة ومحاسبتها، وردها إلى سواء الصراط، أو إسقاطها ليحل غيرها محلها، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة، والقيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". وفي مقالة أخرى، يقول: "وما دمنا قد أجزنا تعدد المذاهب في الفقه، يلزمنا أن نجيز تعدد الأحزاب في السياسة، فما الأحزاب إلا مذاهب في السياسة، وما المذاهب إلا أحزاب في الفقه"(5)

أما مفكرو مدرسة الاعتدال (6) وفي مقدمتهم "طارق البشري"و "راشد الغنوشي" و"محمد سليم العوا" و"فهمي هويدي"، فرأوا أن التعددية السياسية إحدى وسائل تحقيق الاستقرار في النظم السياسية، وإحدى وسائل تجفيف العنف من المجتمعات، لأن القوى المحجوبة عن الشرعية والمقموعة لا تجد إلا العنف وسيلة لإثبات وجودها والدفاع عن كينونتها. ومن الاجتهادات الرائدة في هذا المجال، تأتي مدرسة الاعتدال التونسية، فيما طرحه راشد الغنوشي من أفكار وممارسة سياسية على أرض الواقع، فقد طورت حركة النهضة مبكرا موقفها من الحزبية، فمنذ العام 1980 أخذت تنفتح على المشكل العمالي والاجتماعي وهو ما طور أفكارها وفتحها على فعاليات وتحالفات متنوعة. "وقد وجدت الجماعة (7) تشريع بورقيبة للتعددية الحزبية (1981) وحماسة محمد مزالي (8) لذلك فرصة مناسبة لإعلان تشكليها حزبا سياسيا ذا مرجعية إسلامية تُسمى لأول مرة (بتاريخ 6/6/1981) حركة الاتجاه الإسلامي، التي عبر في بيانها التأسيسي عن رغبتها في العمل القانوني باعتبارها فاعلا سياسيا مدنيا يؤمن بالتعددية ويعترف بالآخر ويقر بتداول السلطة بالطرق السلمية، ويستمد برامجه من المرجعية الإسلامية ويسعى لإقامة دولة عادلة" (9)

أما الغنوشي في كتابه الرائد والتأسيسي "الحريات العامة" ((10))فرأى أن المسلمين مارسوا قدرا من التعددية الثقافية والدينية والاجتماعية في تاريخهم، تصلح لأن يتأسس عليها التعددية السياسية، بل ذهب لضرورة أن يتمتع الجميع بالحرية، مؤكدا أن الحربة السياسية قيمة لا تتجزأ فإما أن تكون للجميع أو لن تكون لأحد، ووضع الغنوشي فصلا في الكتاب، عنونه بـ"تعدد الأحزاب للوقاية من الاستبداد".