مدرسة الاعتدال والديمقراطية

"وتنام الشعوب ليلها، وتصحو نهارها، وهي ترمق حكامها كما يرمق المحزون القدر الغالب، أو كما يحمل المفجوع المصيبة الفادحة، وقلما تألفت حكومة ينظر إليها الشعب كما ينظر الإنسان إلى المرآة فيجد صورته حتى أصبح العامة يستغربون العدالة ويألفون المظالم"(1)... ليست هذه كلمات أحد منظري الديمقراطية الغربيين، ولكن مما كتبه الشيخ محمد الغزالي عام 1949 في كتابه "الإسلام والاستبداد السياسي"(2).

تُظلم مدرسة الاعتدال الإسلامي على مستوى الأفكار والرموز والممارسة مرتين، مرة عند اتهامها بمعاداة الديمقراطية، وأخرى عندما تُحرم المدرسة أن تنعم بالديمقراطية والحريات، وتمنع من حقوقها السياسية في تشكيل الأحزاب، وخوض الانتخابات، والمنافسة السياسية، والتعبير عن آرائها، رغم أن المتتبع لتاريخ النهضة العربية والإسلامية في القرنين الماضيين سيلحظ بجلاء الكم الكبير للنضال الفكري والسياسي الذي خاضه رواد المدرسة في الدعوة إلى الديمقراطية، وإطلاق الحريات، وفي مقاومة الاستبداد. وقد كان مفهوم الحرية عند مدرسة الاعتدال أحد المداخل الكبرى لتجديد الفكر والنهوض الحضاري، وأحد المفاهيم وآليات بناء المقاومة للتحرر من الاستعمار، وكان من إبداعات مفكري المدرسة أنهم ربطوا مفهوم الحرية بالشريعة، لإعطائه قوة كبيرة، فالحرية ليست مفهوما يمكن الاستغناء عنه، أو تجاوزه بسهولة، كذلك لحماية المفهوم من غارات فقهاء السلطان والسلطة لتبرير الاستبداد والديكتاتورية.

ويهدف التقرير إلى الاقتراب من أفكار مدرسة الاعتدال حول الديمقراطية، وتشير إحصاءات دارسي وباحثي العلوم السياسية أن نسب المشاركة السياسية في الانتخابات مقترنة بمشاركة الإسلاميين، وأن الإسلاميين لعبوا دورا كبيرا في حث المواطنين على المشاركة، بعدما ربطوا عراها بالأمانة الدينية التي يجب على الفرد أن يؤديها وإلا أصبح آثما. وقد تم التعبير عن الديمقراطية في تراث مدرسة الاعتدال بصيغ متعددة، لكن حقيقتها واحدة، وهي أن تكون للأمة الولاية على نفسها، وألا يتسلط عليها مستبد، وأن تمتلك حق محاسبة الحاكم وتنحيته ومعاقبته، ومن المفردات التي ظهرت على مدى أكثر من قرنين من تراث المدرسة عند الحديث عن الديمقراطية : المشروطية، (ويقصد بها الحكم الدستوري، حيث كان يطلق لفظ المشروطية على الدستور) والحكم النيابي، والحكم الدستوري، والحكم المقيد، والحكومة البرلمانية.

الاستبداد بلا غطاء ديني

اتخذت مدرسة الاعتدال من الاستبداد عدوا لها منذ ظهورها قبل ما يقرب القرنين، إذ تستند المدرسة إلى أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وخير الدين التونسي، وبدأت المدرسة بفك الارتباط بين الرؤية الدينية والاستبداد لإفساح المجال للحكم الديمقراطي، وهناك تراث عريض في هذا الشأن، حوته الكثير من المؤلفات، ولعلنا نتوقف عند تفسير "المنار" للشيخين محمد عبده وشيد رضا، فقد شنا حربا على الاستبداد خاصة المستند لغطاء ديني، فيقول محمد عبده: "وقد علمت أن قبول الاستبداد واتباع القرآن ضدان لا يجتمعان"(3) كما ربط الإمام بين التوحيد ومقاومة الاستبداد، "ويؤخذ من هذا أن المؤمن الموحد يكون أعز الناس نفسا، وأعظمهم كرامة، وأنه لا يقبل أن يستبد فيه حاكم، ولا أن يستعبده سلطان ظالم، وما قوى الاستبداد في المسلمين إلا بضعف التوحيد فيهم"(4).

أما الشيخ رشيد رضا، فاعتبر أن احتكاك المسلمين بالغرب نبههم لما في دينهم من قيمة الشورى، واستفاض الشيخ في الحديث عن الشورى في أكثر من موضع من تفسير "المنار" خاصة قوله تعالى "فبما رحمة من الله لنت لهم"(5) حيث أشار إلى أن: القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية هي الشورى، وأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أقام الشورى، وأن الإسلام لم يضع آليات محددة لتطبيقها، ولكن تركها حسب كل زمان ومكان، حتى لا يتخذ المسلمون من القواعد الإجرائية دينا يعملون به (6). ثم جاء الشيخ محمد الغزالي ليضرب الاستبداد وغطاءه الديني ضربات موجعة للغاية في الكثير مما كتبه الشيخ، مثل: "الإسلام والاستبداد السياسي" و"دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" و"الحق المر"، "والغزو الثقافي يمتد إلى فراغنا"، حيث حارب التفسير الديني الذي يرى أن الشورى غير ملزمة، ويقول: "وأخطأ من المفسرين من وهم أن الشورى غير ملزمة، فما جدواها إذن؟ وما غناؤها في تقويم عوج الفرد إذا كان من حقه ألا يتقيد بها؟"(7)، ثم يطالب صراحة بالديمقراطية، قائلا: "والديمقراطية الحديثة تخضع الحاكم لرأي الكثرة وتمنع السلطة التشريعية من التدخل في شؤون السلطة التنفيذية المحضة، فإذا كان الذين يريدون إطلاق سلطة الحاكم عن دائرة الشورى يعنون ذلك فلا حرج عليهم، وإلا فكلامهم لغو لا يعتد به." (8) .

ثم يقول: "فالأمة وحدها هي مصدر السلطة، والنزول على إرادتها فريضة، والخروج عن إرادتها تمرد" (9)، بل إنه اعتبر الديمقراطية ميزة غربية تمنى أن يتحلى بها المسلمون فيقول: "إنني أومن بالشورى، وأزدَرِي الاستبداد السياسي من أعماق قلبي، وأرد إليه أغلب هزائم أمتنا خلال تاريخها.. وأرمق الديمقراطية الغربية فأحسد أصحابها على مناقشة الآراء بحرية، وعلى استكانة الحكام للحق، وعلى اعتزاز الأفراد بكراماتهم، وكنت أهمس إلى نفسي: أما يجيء يوم يظفر فيه المسلمون بمثل هذه النعمة ؟"((10)) .  هذه لم تكن نصوصا تقف ضد الاستبداد، وتدعو إلى الديمقراطية والحكم الشوري، بقدر ما كانت مواقف ضد الاستبداد خاضها العلماء دفعا عن الحرية والديمقراطية، ففي مقابلة فريدة بين السيد جمال الدين الأفغاني والقيصر الروسي سأل القيصر فيها الأفغاني عن سبب خلافه مع شاه إيران، فقال له الأفغاني: "إنها الحكومة الشورية أدعو إليها ولا يراها". فقال القيصر: الحق مع الشاه إذ كيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاّحُو مملكته؟ فقال الأفغاني: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون الألوف المؤلفة من رعاياه أصدقاء له بدل أن يكونوا أعداء يتربصون به الدوائر. فلم يعجب القيصر هذا الحديث، وغادر المجلس علامَة الإذن لجمال الدين أن ينصرف"((11)) .

مقاومة الفتاوى التي تعارض الديمقراطية

كانت الفتوى من الآليات المهمة التي لجأت إليها مدرسة الاعتدال لمقاومة الاستبداد، ولتحقيق الحياة الديمقراطية، فتراث الفتوى حافل بالحث على الحكم الشوري، لكن زادت الحاجة إلى الفتاوى المتعلقة بالديمقراطية في الثمانينيات من القرن الماضي، بعد موقف الجماعة الإسلامية المناهض للديمقراطية والتي كانت ترى فيها -قبل مراجعاتها- نوعا من الكفر، وترى في المشاركة السياسية كفر، وأصدرت في ذلك عدة أدبيات كفرت فيها من يشارك في انتخابات مجلس الشعب المصري. غير أن مدرسة الاعتدال تصدت لتلك الكتابات بشدة، معتبرة أن تحرير الحرية في البلدان الإسلامية هو تحرير للدين ذاته، وتحرير للقوى الفاعلة في الأمة، ولا يتم ذلك إلا من خلال الديمقراطية، وقد جاءت أهم فتوى في ذلك للشيخ يوسف القرضاوي((12)) ، حيث كان سؤال الديمقراطية يطارده بشدة أثناء عمله في الجزائر، فلم يجد الشيخ إلا أن يصدر فتوى مستفيضة في هذا الشأن، رحبت بالديمقراطية، واعتبرتها واجبا يجب على المسلمين أن يسعوا لتحقيقه ويتمسكوا به، فيقول الشيخ: "الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام"، ثم يقول: "وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة، والمنضبطة، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلى الله وإلى الإسلام، كما نؤمن به، دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تنصب لنا أعواد المشانق".

الديمقراطية مطلب الاعتدال

كانت الديمقراطية مطلب مفكري مدرسة الاعتدال، إذ كانوا يرونها طوق نجاة للإنسان والدين والمجتمع، وكانوا يرددون أن الدين الذي جعل فطام الطفل لا يتم إلا بالتشاور بين أبيه وأمه، هل يترك شؤون الحكم بلا شورى؟! ومن ثم كانوا يعتبرون أن ترك الشورى من أعظم ذنوب المسلمين في عالم السياسة. وهنا تأتي أطروحات الشيخ راشد الغنوشي، إذ كانت الديمقراطية والحرية إحدى القضايا الكبرى التي دافع عنها من خلال مشروعه الفكري ومن خلال ممارسته، فهو لا يرى أن هناك فروقا كبيرة بين الشورى والديمقراطية، لذا كان يستخدم المصطلحين بنفس المعنى تقريبا، فالديمقراطية عنده "جملة من الترتيبات الحسنة طورها البشر على امتداد مئات السنين من أجل الحد من الطغيان والتفرد بالسلطة"((13)) ، "والشورى في الإسلام هي الأصل الأعظم -بعد النص- الذي تقوم عليه شرعية الحاكم ومدى استحقاقه للطاعة.. إن الشورى هي العمود الفقري للحكم الإسلامي باعتبارها رمزا لسلطة الأمة ونهوضها بأمانة الاستخلاف"((14)) .

ومن ثم فالإسلام في رأيه "لا يحتاج من أجل القبول بالتعدد السياسي أو الديني إلى الخضوع لجراحات وإصلاحات.. فالذي يقبل بالتعدد الديني {لا إكراه في الدين} (البقرة:256) يقبل بالتعدد السياسي من باب أولى"((15))، ولهذا كانت الديمقراطية مطلب مدرسة الاعتدال في رأيه، فـ"الثابت اليوم أنك لا تحتاج إلى جهد لإقناع الإسلاميين بالديمقراطية، لأنها مطلب تيارهم العريض من طنجة إلى الخليج، المشكل أنه لا أحد يعرضها عليهم، بل المعروض عليهم هو القمع والاعتقال وتكميم الأفواه، والنفي حتى الاستئصال"((16)). أما المفكر الإسلامي فهمي هويدي، فمنذ السطر الأول في كتاب "الإسلام والديمقراطية" يؤكد على حقيقة أن الإسلام والديمقراطية صنوان للأمة المسلمة في الوقت الراهن، ويقول: "لا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام، أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية؛ إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمة، وبغير الديمقراطية -التي هي مقابل سياسي للشورى- يحبط عملها" ((17))