باتت الديمقراطية كلمة تترد على ألسن الناس ومسامعهم كثيرا في المنتديات السياسية، والمناقشات الفكرية، حتى في حياتهم العامة، لا سميا بعد موجة الربيع العربي وأثره في واقعهم السياسي، وأصبحت حلما للشعوب التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، تكويها بنيران الظلم والفساد والطبقية المتوحشة، وبرغم النقاشات الواسعة حولها، فإنه ما زال بين المثقفين، من التيارات المختلفة، اختلاف حول الاحتكام إلى الديمقراطية في الواقع السياسي، ولاسيما المحسوبون على التيارات الإسلامية المختلفة.

ما هي الديمقراطية؟

الديمقراطية كلمة يونانية، تعني حكم الشعب، أو هي شكل من أشكال الحكم بعد التطور التفاعلي في الحياة السياسية، تتيح للشعب أن يحكم نفسه بنفسه، وأن يكون هو مصدر السلطات وقوانين الدولة، فيختار الحكومة، وشكل الحكم، ونظام الدولة.

نظرة مدرسه الاعتدال المعاصرة للديمقراطية

اختلفت التيارات الإسلامية فيما بينها على الأخذ بالديمقراطية، فمنهم من رفضها رفضا صريحا مطلقا بل كفر المنادين بها، واعتبرها سلطة تنازع الله في ملكه، وتعظم حكم الشعب على حكم الله، بما يعتبر تعظيما لشأن المخلوق على شأن الخالق سبحانه. وفريق آخر يرى أن هوية الأمة الإسلامية مهددة، ما بين التشدد الذي يقف بالأمة عند زمان تاريخي معين يعزلها عن الواقع المعاصر، وبين انفتاح غربي تبهر المسلمين أضواؤه اللامعة، والأخذ به كلية بدون مراجعة للتراث الإسلامي وبدون الوقوف على الأصول يفسد بنية المسلم، ويهدد ثقافته، ويتجه به نحو طريق الغواية، والإفلات من منهج ربه. وهذا الفريق يمثل شريحة كبيرة من المفكرين والدعاة، وهم يدعون إلى الأخذ ببعض الوسائل السياسية التي تناسب العصر، وتواكب الواقع، وتتفق مع أصول الإسلام وقيم مجتمعه، فما في الحضارة الغربية اليوم لا يؤخذ كله، ولا يترك كله، ومن تلك الوسائل الانتخابات التي تجرى على اختيار أعضاء البرلمانات التي تضع القوانين، وتشرع للأمة بما يتفق مع روح الشريعة الإسلامية، ومنها الانتخابات الرئاسية إذ يختار الناس الحاكم من خلال صناديق الاقتراع. وهذا التيار بات هو السائد وهو ما يعرف بتيار مدرسة الاعتدال التي شاركت في العملية الديمقراطية في هامشها المحدود في البلدان العربية بكافة جوانبها، تصويتا وترشيحا ونيابة، وله دعاته ورواده ومفكروه في شتى البلدان العربية والإسلامية، وهم من نتعرض لآرائهم في هذا التقرير البحثي.

مفكرو الصحوة والديمقراطية 

الشيخ يوسف القرضاوي

في كتاب من فقه الدولة رد الشيخ على سؤال، هل الديمقراطية كفر؟ فقال: إن الديمقراطية في جوهرها، بعيدا عن التعريفات الأكاديمية، هي أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس رغم أنوفهم إلى اتجاهات ومناهج اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضوها كان جزاؤهم التنكيل والتشريد هذا هو جوهرها، أما عن أساليبها فهي، مثل الانتخابات والاستفتاءات، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وكفالة الحريات بكل أشكالها للأفراد والمؤسسات، واستقلال القضاء وغير ذلك. وإذا كان هذا هو جوهر الديمقراطية فإنه يتفق مع جوهر الإسلام الذي رفض إمامة الرجل لقوم يكرهونه، وشن حملة في غاية القسوة والقوة على الحكام الظالمين والطغاة، كما النمرود وفرعون وقارون، وحمّل الشعوب التي رضيت بظلمهم وفجورهم المسئولية معهم، فهم الذين استسلموا حتى صنعوا الفراعنة والطغاة وميزة الديمقراطية أنها اهتدت خلال كفاحها الطويل مع المستبدين، إلى صيغ ووسائل تمثل ضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين، وهي مع ذلك لا تخلو من بعض المآخذ التي لا يخلو منها عمل بشري، والباب ما زال مفتوحا لاجتهاد المفكرين والقادة في صيغ وأساليب أخرى، ومن خلال ذلك بين الشيخ أننا نأخذ من الديمقراطية أساليبها وآلياتها بالتعديل الذي يلائمنا، ولا نأخذ فلسفتها التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض وتناقض الدين.(1)

محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي

يرى الفقيه والمفكر الإسلامي الموريتاني، أن الديمقراطية التي يراها الناس فلسفة تخالف الشرع وتعارض تطبيقه، مرفوضة وممنوعة، أما أن تكون الديمقراطية أداة لتطبيق الشرع، والتيسير على الناس في اختيار حاكمهم فهذا ما ندعو إليه، على أن تكون أداة سياسية تساعدنا في تطبيق مبدأ الشورى في الإسلام وتوسيع قاعدته "وشاروهم في الأمر"، والإلمام بآراء الناس عن المرشحين في المجالس النيابة والرئاسة.. ودعا إلى التوسع في استخدامها كأداة اختيار وانتخاب في الشركات والمؤسسات المختلفة أيضا. وعن روح الديمقراطية ومدى الانسجام بينها وبين روح الإسلام، قال الددو: إن كانت روح الديمقراطية تعني رفض الظلم، وإقامة العدل فهي تتفق مع روح الإسلام وجوهره، والأخذ بها كأنها وسيلة وأداة تيسر تطبيق الدين والشريعة والشورى فهذا واجب لتطبيق الواجب.  (2) (3)

محمد عمارة 

بداية إن الديمقراطية عند الغرب، هي حكم الشعب للشعب بالشعب، يعني الحكم فيها يعود للشعب، لكنها منفلتة من المعايير الدينية، يعني الشعب أو من ينوب عنه، يستطيع أن يحل الحرام ويحرم الحلال، أي أن سلطة الأمة لا سقف عليها، حيث إن الإنسان في النظام الديمقراطي العلماني سيد الكون، أما في النظام الإسلامي فهو سيد في الكون وليس سيد الكون، أي أن الإنسان عبد لله وحده وسيد لكل شيء بعده، فسيادة الإنسان مشروطة بعبادته لله تعالى. وعامة فإن النظام الديمقراطي أفضل من الديكتاتورية، والشورى أفضل من الديمقراطية، حيث إن سلطة الله فيها فوق سلطة الأمة، وللأمة مرجعية منهجية ملتزمة بها ولا تخالفها. أما عن موقع الديمقراطية من الإسلام فإننا نقبل بآليات الديمقراطية، بل إننا نحتاج أن نستفيد منها ومن تجاربها، أما فلسفة الديمقراطية بأنه لا سلطان على سلطة الأمة، فهذا الذي يرفضه الإسلام ولا يقبل به. ونقطة أخرى: إن الشورى لا تمثل الوصفة السحرية للتقدم والإصلاح، ولا الديمقراطية هي الحل السحري لمشكلات المجتمعات المعاصرة، وإنما الحل هو الكدح الإنساني كي تكون التطبيقات للشورى أو الديمقراطية أقرب ما تكون إلى تحقيق إنسانية الإنسان. (4)

سليم العوا

يرى المفكر الإسلامي سليم العوا أن الإسلام منهج حياة، والإسلام دين يتعبد الناس به لله، أما الديمقراطية فطريقة لحل مشكلة تعاني الشعوب منها، وهي وسيلة لحل مشكلة الحكم، وطريقة يتخلص بها الناس من أن يكونوا مستعبدين لحاكم مستبد مدى حياتهم، لذا فإن المقارنة بين الديمقراطية والإسلام، أو اختراع ثنائية اسمها الديمقراطية والإسلام اختراع خاطئ، هذه الثنائية غير حقيقية، الإسلام أشمل وأعم وأكمل وأتم من أن يكون حلاً لمسألة جزئية، بينما الديمقراطية حل لمسألة جزئية هي مشكلة الحكم، وتداول السلطة، والتعبير عن الرأي، والحرية. أما بخصوص الإشكالية التي يرفض بعض المنتمين للحركة الإسلامية بسببها الديمقراطية، وهي أن الديمقراطية تقول بأن الشعب مصدر السلطة، وأنها بذلك تنافي قوله سبحانه "إن الحكم إلا لله"، فإن هذا فيه خلط كبير بين مفهوم السلطة ومفهوم الحكم، فالسلطة للشعب تعني أن الشعب هو الذي يولي، وهذا قام به المسلمون منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى الناس أبا بكر بطريقة، ثم ولى الناس عمرَ بطريقة أخرى، وعمرُ ولى عثمانَ بطريقة ثالثة، وعليٌّ ولاه الناس بطريقة رابعة، وبناء عليه فالسلطة للشعب في الإسلام من بعد وفاة رسول الله. أما كيف يكون الحكم، فالحكم يكون بشريعة الله، بالقرآن والسنة واجتهاد علماء الأمة فيما لا نص فيه. يبقى أمر أخير، وهو أن الديمقراطية تجعل القرار للأكثرية، وهذا أمر طبيعي فعندنا في الإسلام الشورى قائمة على قرار الأغلبية، وما يتخوف البعض منه من أن الناس قد تختار وتقرر ما يخالف دين الله، فهذا شأن الغرب لأنهم لا شريعة عندهم، ولا مرجعية إلا ما وضعوه هم لأنفسهم، أما عندنا كمسلمين فإن الإسلام مرجعيتنا، ومتى طلبنا كمسلمين ما يخالف ديننا، فإننا لا نستحق أن نكون مسلمين حينها، هذا التخوف غير وارد، لأن الذين سيمارسون الديمقراطية هم أناس مسلمون، والمسلم بطبيعته يحب ما يحب ربه سبحانه. (5)

راشد الغنوشي

أما الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية فيقول بأن أغلب التيارات الإسلامية، على اختلاف أفكارها، تشترك فيما بينها على مفاهيم تجمعها مع كل أطياف المجتمع وهى رفض الظلم، وضمانة الحريات للشعوب والمجتمعات، ولقد بدا أن أغلب الحركات الإسلامية، والمفكرين والدعاة المحسوبين عليها، قد اقتربوا من قبول الديمقراطية وتطبيق آلياتها، إذا ما قصدنا بالديمقراطية نظام الحكم المستند للإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال انتخابات حرة نزيهة، يتساوى فيها حق المشاركة بين جميع المواطنين، وضمنت الحريات والحقوق الأساسية في الاعتقاد والتعبير، وتكوين الجمعيات، ونزاهة القضاء واستقلاله، وتداول السلطة. وعلى كل الحركات المجتمعية سواء أكانت علمانية أم ليبرالية أم إسلامية أم قومية أم اشتراكية، أن تراجع مساراتها بجد في اتجاه الحسم الكامل مع كل فكر يؤصل لإقصاء الآخر المخالف، ويفرض وصايته على المشترك وطنا ودينا ومصلحة عامة، من أجل استمداد شرعية لحكم الناس من طريق آخر غير إرادتهم الحرة المعبر عنها بأفضل طريقة متوفرة في عصرنا هي الديمقراطية، مجردة من كل خلفية أيدلوجية غير احترام الإنسان وتكريمه، والمساواة بين الناس واعتبار الشعب مصدر كل سلطة، وما تبقى فأدوات قابلة للتطوير.. وإلى أن نجد خيرا منها فليس أمامنا غير القبول بها وإسداء الشكر للذي طورها. (6)