كتاب: تجديد الفكر الإسلامي (2-3)

التجديد عند الدكتور حسن الترابي لا يعنى به التغيير أو التبديل أو النسخ وإنما يعني إيقاظ الفكر الخامل بإحياء شعب الإيمان الميتة في نفوس الناس، ويعني إحياء علوم الدين.

يقول الترابي: "... أما إحياء الدين فهو كسب تاريخي ينهض بإحياء الدين بعد فترة، بعثاً لشعب الإيمان الميتة في نفوس الناس بتطاول الأمد وقسوة القلوب، من خلال التذكير بأصول الدين، والعلم الضائع بنشر أصول الشريعة، وإثارة لطاقات الحركة لتصحيح الواقع الديني المجانب لمعايير الدين تأثراً بضعف الإيمان ونسيان العلم أو غلبة الباطل. ولما كان دين الله الحق محفوظاً في أصوله، فإنما يطرأ الموت والخمول والفتور على كسب الفرد. أما التطور فهو كسب تاريخي أعظم مما يبلغه مجرد الإحياء: إحياء الدين بالبعث والإيقاظ والإثارة، لأنه يكيف أحوال التدين التاريخية لطور جديد في ظروف الحياة، ويستصحب هذا التجديد جهداً فكرياً ونفسياً وعملياً زائداً تتولد منه مواقف إيمان وفقه وعمل مصوبة نحو ابتلاءات ظرفية جديدة، ولا يتأتى ذلك عن خروج عن أطر الدين الحق، بل عن تصريف للمعاني والأحكام والنظم المركبة في سياق نصوص الشريعة ذاتها، أو يكون التجديد إظهاراً لما شرعه الله من مقاصد بتنزيل مجملاته وحمل توجيهات على الواقع المعين بوجه يبني على كل خاطرة ربانية أو حكمة أو وسيلة لم تتح، أو يكون التجديد نسخاً لما ألحق بأصل الشريعة من فقه العلماء الاجتهادي وكسبهم استدراكاً يعطل ما ثبت خطؤه بمزيد من التدبير النظري أو تجربة تاريخ يكشف الحق وتعلم الحق.."

تجديد الفكر الإسلامي

يحاول الترابى أن يجيب على التساؤل الرئيسى لمحور الكتاب وهو هل الفكر الديني قابل للتجديد؟ أليس الدين حقائق ثابتة لاتتغير من حين إلى حين؟ بلى، ذلك حق فى شأن الإسلام ولكن الفكر هو عمل المسلمين فى تفهم الدين وتفقهه وذلك كسب بشرى يطرأ عليه ما يطرا على سائر الحادثات من التقادم والبلى والتوالد والتجديد، بيد أننا لا نصدر عن نظرية التطور المطلقة حين نتحدث عن تجديد الفقه الإسلامي أو فقه الإسلام، ذلك أن الفقه الإسلامي فكر ملتزم بمعالم الطريق إلى الله وليس فكراً مجردًا أو هوى معرداً بل هو تفهم وتفقه للشريعة الإسلامية. ويوضح الترابى أن أداة التجديد فى الفكر الديني قبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت مرهونة ببعثة الأنبياء، بتعاقب الأنبياء نبياً بعد نبي ورسولاً بعد رسول يصدق كل واحد منهم أخاه الذى سبقه ويطور شريعته ليناسب تطور الزمان، ولكن بعد الرسالة الخاتمة أصبح الأمر محكما وأصبح التجديد منوطا بالعلماء وجماعة المسلمين، بل إن مرد الأمر فى التجديد إنما هو لجماعة المسلمين التى يستخلفها الله فى الأرض جيلا بعد جيل[1]. فالدين كما يرى الترابي ينهض به جيل أو قرن من الناس، هم الذين يجاهدون ويكابدون لتأسيسه ثم يأتي قوم من بعدهم يتكلون على سالفة ذلك الجهاد ويتراخون حتى يتغير أمر الدين وفكره وتتضاءل مظاهره الحية ويتجه المجتمع كله للانحطاط إلى أن يقيض الله له تجديدا وتعميرا على يد جيل جديد[2].

ويقول الترابى: إن كثيرا من الدعوات السالفة تجاوزها الزمن، لا لأنها فشلت في علاج قضايا عصرها ولكن لأنها نجحت نجاحا حاسما فى علاج تلك القضايا، وضرب مثلا لذلك حركة المعتزلة التى قامت لتجابه الغزو الفكري الذى أتى بشبهات عقلانية كثيرة فى وجه العقائد الإسلامية وانبرى له المعتزلة بمثله أى بالسلاح العقلى[3].فقديماً كان الفكر العقدي، إما كلاماً موجهاً إلى علاج القضايا الكلامية التي أثارها دخول المنطق والغزو الفكري الهيليني على المسلمين، أو فكراً توحيدياً موجهاً ضد الشرك الشعائري، وهو الشرك الذي يتمثل في النذر لغير الله، أو الاستعانة بغيره، أو الطواف بوثن وغير ذلك.وأصبح اليوم يجابهنا شرك جديد هو الشرك السياسي وهو أن يتخذ الناس آلهة من دون الله سبحانه وتعالى يتحاكمون إليها ويتخذونها مصدرا للتشريع، هذا الشرك السياسي الجديد ليس فى الفكر الإسلامي العقدى كثير علاج له ولذلك انبرت له أقلام مفكرين عقائديين مسلمين منهم العالم الإمام المودودى والشهيد سيد قطب، فقد تحدثا عن حاكمية الله سبحانه وتعالى وضرورة التوحيد فى تلك الحاكمية وقد كان هذا نوعا جديدا من الشرك وكان لابد أن يتوجه إليه فكر عقدي جديد[4].

ويرى الترابي أن فقهنا التقليدي اتسم بأنه فقه لا شعبي وحق الفقه فى الإسلام أن يكون فقها شعبيا ذلك أن التحري عن أمر الدين ليس من حق طائفة أو طبقة من رجال الدين وأن الإسلام لا يعرف التدين الذى يحتكره رجال ويتخذون الدين سرا من الأسرار يعكفون عليه يحجبونه عن الناس ويصبحون من أجل ذلك السر المحجوب عن الناس وسطاء بين العباد وبين ربهم أو يصبحون سلطة مركزية يستبدون بأمر الاجتهاد دون الناس، والاجتهاد مثل الجهاد ينبغي أن يكون فيه لكل مسلم نصيب، لا يحق فيه لمسلم إلا كما لا يحق له أن يموت ولم يغز ولم ينو الغزو[5].وكذلك تدور على الفكر دورات التنظيم والطلاقة فلابد من أن يتوازن فى كل فكر ضوابط النظام التى تحكم الفكر من أن يصبح فوضى ودواعى الطلاقة التى تعصم الفكر من أن يتجمد[6].فقد انسد باب الفقه الإسلامي عهوداً طويلة والواقع أنه لم يسد أحد باب الاجتهاد بحجة فى العقيدة أو فى الشريعة، وإنما انسد ذلك الباب بحكم أطوار الفكر الإسلامي وأحوال الحضارة الإسلامية[7]. ولا يمكن أن نجتهد إلا إذا تعلمنا علوم الطبيعة كما نتعلم الشريعة، ذلك أن علم الطبيعة هو الذى يعرفك بالواقع وأدواته[8].

الرد على المحافظين

يرد الترابى على دعوات المحافظين بالخوف من انتشار فوضى الفتوى فيقول: قد يخشى المحافظون – لاسيما وقد فشا الجهل بأحكام الإسلام – أن يتصدى للفتوى فى الشؤون العقدية والشؤون الشرعية العملية مفتون جاهلون فيضلون ويضلون، ويخشى الناس إذا فتحنا الباب على مصراعيه لكل ذي رأي وكل ذي هوي، أن تتفرق بالمسلمين المذاهب وتتشتت بهم السبل فتتبدد وحدتهم ولكن مهما كان فى ذلك الاعتبار من وجاهة ومهما كان ما يلزمنا أن نحاط له من ضمانات فينبغى أن نقدر أن الجمود الفكري يؤدي إلى ضلال أوسع من الاجتهاد فى كل حال، وأن التفرقة تتأتى من الجمود أكثر مما تتأتى من الاجتهاد[9].وأرجو أن أؤكد أن المجتمع المسلم تتركب فيه ضمانات طبيعية تعصم المسلمين من التفرق ومن الضلال وأول تلك الضمانات هو الرأي العام المسلم الذى يلازمه حد أدنى من الرشد مهما استبد الجهل بالمسلمين[10].

تجديد أصول الفقة الإسلامي

ينطلق الترابي للتأسيس لفكرة التجديد الفقهي من واقع الحياة الإسلامية الجماعية التي انحرفت كثيرا عن مقتضى شرع الإسلام لقضايا الحياة الإسلامية، وانحرف معها الفقه فالفتاوى المتاحة تهدي الفذ كيف يبيع ويشترى أما قضايا السياسة الشرعية الكلية – كيف تدار حياة المجتمع بأسره إنتاجاً وتوزيعا واستيرادا وتصديرا وعلاجا لغلاء معيشة أو خفضا لتكاليفها – هذه مسائل لم يعن بها أولياء الأمور ولم يسائلوا عنها الفقهاء ليبسطوا فيها الفقة اللازم[11]. وخلاصة القول أن فقهنا الأصولي القديم بعد نهضة حميدة آل إلى الجمود العقيم بأثر انحطاط واقع الحياة الدينية نفسها، فلم يتطور ولم يُوَلِّد فقها زاهرا بعد تمامه فنيا[12]. يرى الترابى أن المجتهد لا ينفك وهو يقبل على النصوص من تأثر بالواقع الذى يعيشه بمصالحه وأسبابه، وتأثر بالثقافة الفقهية التى أخذها نقلاً عن السالفين، ولا ينبغي له كذلك أن يقدر المصالح إلا منفعلاً بتقديرات النصوص ومعاييرها، حتى لا يغنى أصل عن أصل ولا ينفصم النقل عن العقل، ولا الشرع عن الواقع[13].

أصول ضوابط للفقه الاجتهادي

يرى الترابى أنه حينما نحيي الأصول الواسعة التى عطلت فى الفقه الإسلامي التقليدي، تنشأ لنا الحاجة إلى ضبط نتائج الاجتهاد فيها، لأن سعتها تؤدي إلى تباين المذاهب والآراء والأحكام وأهم الضوابط التى تنظم المجتمع المسلم وتتدراك ذلك التباين هى أن يتولى المسلمون بسلطان جماعتهم تدبير تسوية الخلاف ورده إلى الوحدة[14]. ويوضح الترابى أن المجتهد الأوثق هو الأتم من غيره إحاطة بعلوم الشريعة واللغة والتراث وإحاطة كذلك بعلوم الواقع الطبيعى والاجتماعي وهما شعبتا العلم وحيا ونقلا وتجربة وعقلا ولا تقوم الحياة الدينية إلا بهما معا[15]. ويشير الترابى إلى أنه على الدولة حين تصدر الآراء والمذاهب أن تعقد الشورى وتقنن الآراء والأحكام المعتمدة وعليها أن تحتاط لذلك التقنين والتدوين تنظيما مسبقا لحياة المجتمع الرشيد، وإذا كان النمط التقليدي هو إيكال أمر تطوير الأحكام للفقهاء الذين ينتظرون الحادثات والمسائل ليستنبطوا لها المعالجات والفتاوى فشأن المجتمع الرشيد الذى يتخذ لحركته وجهة مقررة ولا يركن إلى العفوية والتجريدية أن يخطط نظامه القانوني ما أمكن[16].

 

 

[1] ص 20

[2] ص19

[3] ص20

[4] ص22-23

[5] ص25

[6] ص27

[7] ص28

[8] ص29

[9] ص28-29

[10] ص29

[11] ص40

[12] ص40

[13] ص45

[14] ص47

[15] ص48

[16] ص47

[17] ص70