بدأ الاستعمار منذ احتلاله الشرق الإسلامي التلاعب بالقضية الاجتماعية، في محاولة لتغيير عقائد المسلمين من خلال التبشير، وكان مدخله في ذلك استغلال حاجاتهم المعيشية، ففي السنوات الأولى من القرن العشرين، تفاءل المبشرون بعد احتلال مصر عام 1882، وتشجعوا لعقد أول مؤتمراتهم التبشيرية عام 1906، الذي كان إيذانا بحملة واسعة لتنصير المجتمع.

غير أن المصلحين المسلمين رأوا أن المشكلة الاجتماعية هي المدخل الرئيس للاستعمار والتبشير، فأعطوا القضية الاجتماعية حقها من الاهتمام، فأنشأ وجهاء المصريين وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده "الجمعية الخيرية الإسلامية" في أغسطس 1892م، فكانت أول عمل اجتماعي في مصر، وبداية لتأسيس حركة إصلاح اجتماعي واسعة هدفها خلق مجتمع قادر على التضامن، ومع ازدياد الضغط التبشيري المستغل للقضية الاجتماعية أسس الشيخ محمود خطاب السبكي الجمعية الشرعية في (غرة المحرم 1301هـ= 11 ديسمبر 1912م).

ومع إلغاء الخلافة العثمانية 1924، عقد المنصرون المؤتمر الثاني في القدس عام 1926، وأعلنوا عن خطتهم لتنصير المسلمين في عشر سنوات، فنشأت جمعية الشبان المسلمين عام 1927 لتنمية الشباب المسلم في مجالات الفكر والثقافة والرياضة.

وكان الشيخ حسن البنا من مؤسسي جمعية الشبان المسلمين، بل إن نشأة الحركة الإسلامية في العام 1928 على يد الشيخ البنا كانت ردا على حملات التبشير والظلم الاجتماعي في مدينة الإسماعيلية، لذا ساهم البنا كعضو بارز في جمعية مقاومة التبشير المصرية التي تأسست عام 1933.

ورغم أن البنا وحركة الإخوان بذلت جهودا واسعة في تخفيف حدة المشكلة الاجتماعية في مصر، من خلال إنشاء المستشفيات والمدارس ورعاية الفقراء، كذلك المساهمة مع الدولة المصرية في مقاومة وباء الكوليرا الذي اجتاح الريف المصري عام 1947، إذ سعى البنا إلى إحياء نظام الإسلام الاجتماعي مع تطبيقه، ورغم السعي لمأسسة الخير لينتج آثاره الإيجابية في المجتمع، فإن الإسهام الأكبر لمدرسة الاعتدال كان في إنتاج الأفكار الداعية إلى الإصلاح الاجتماعي خاصة في مجالين أساسين، أولهما: مقاومة التوظيف السياسي للدين في المشكلة الاجتماعية، وثانيهما: التأسيس الفكري لمسألة العدالة الاجتماعية.

مقاومة التوظيف السياسي للدين

قامت مدرسة الاعتدال بجهد فكري كبير لمقاومة التوظيف السياسي للدين في المشكل الاجتماعي، حتى لا يتم تصوير معاناة الناس بسبب المظالم الاجتماعية على أنها قدر محتوم يستوجب الصبر وعدم الضجر، وكانت أفكار المدرسة تفكك دعاوى علماء السلطة التي تطالب الناس بالركون والقعود عن المطالبة بحقوقهم مع الرضا بالظلم الاجتماعي.

فكان أول كتاب أصدره الشيخ محمد الغزالي هو "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية" عام 1947، أوضح فيه منهج الإسلام في الإصلاح الاجتماعي، وكان مثيرا من الشيخ هذا الاهتمام المبكر بالمسألة الاقتصادية، ويبدو أن ذلك كان انطلاقا من فكرة شمولية الإسلام التي كانت المرتكز الرئيس للمشروع الفكري للشيخ البنا، إذ إن من شمولية الإسلام لمظاهر الحياة أن يكون له حضور في عملية الإصلاح المجتمعي، خاصة في أكثر نقاطه حساسية وتماسا مع المجتمع وهي المسألة الاقتصادية.

ومن يطالع الكتاب الرائد للغزالي يلحظ الربط القوى بين قضايا المجتمع والاقتصاد، فهناك علاقة وثيقة بين الفضائل والرذائل وبين العوامل الاقتصادية، وهو منهج متقدم بالنسبة للدعاة في تناول قضايا الإصلاح الاجتماعي، إذ إن الفضيلة لابد أن تستند إلى سياج يغذيها ويقويها ويجعلها رقما صعبا في مواجهة تقلبات الحياة، كما أن الرذائل المستندة إلى قوة اقتصادية تنتشر في المجتمعات بصورة كبيرة، وتسعى لأن تتسوَّد على حساب كل قيمة وفضيلة في المجتمع.

وفي هذا الكتاب الرائد حذر الغزالي من سوء استغلال الدين في حل المشكلات العامة، وخاصة مشكلة الفقر، لذا حارب الفهم المغلوط في أذهان كثير من الناس حول موقف الإسلام من القضايا المجتمعية، فقد ظن الكثير أن الإسلام لا يبالي بأوجاعهم وآلامهم مادام ليس سببا فيها، يقول الغزالي: "الناس فهموا أن الدين إن لم يُرحب بالمرض فهو لا يبالي بدفعه! وإن اهتم بدفعه! فبالكلام القوي، أو الفعل المريض"(1).

ورفض الشيخ أن يقتصر دور الدين على الوعظ البارد والكلام الحماسي لحل المشكلات الاجتماعية، فعندما استعانت الحكومة المصرية في الأربعينيات بعلماء الدين لكي يجوبوا القرى ليحدثوا الناس عن أهمية النظافة حين انتشر الوباء وحصد المئات، رأى الغزالي أن ذلك غير كاف من هؤلاء للإصلاح الاجتماعي، فالكلمات لن تطعم الجائع أو تكسو العريان، ولن تخفف معاناة البائس، وهنا يصبح الوعظ تمسحا باطلا بالدين، وقال صراحة: "وإنها لجريمة أن تتاح فرصة التداوي للأغنياء، وأن يرمى بغيرهم في الطريق"(2)

ورأي الغزالي في تأميم بعض الدول لمهنة الطب، وإتاحته للجميع من خلال التأمين الصحي، فرصة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

وسعى الغزالي أن يبعد الدين عن التوظيف السياسي الهادف إلى تبرير الظلم والرضا به، والتقاعس السياسي والحكومي عن القيام بدورهم الإصلاحي، لذا أبدى خشيته الواضحة من أن "تستعين الحكومات برجال الوعظ لتسكين الخواطر" (3) في الأزمة بين العمال وأرباب العمل، واعتبر ذلك نوعا من الاستغلال للدين، ينتهي بأن يصبح الدين منبوذا في الطبقات المنكوبة والمظلومة، إذ يصبح الدين في هذه الحالة أداة قهر واستغلال في يد المتنفذين.

وتأسيسيا على هذه المخاوف خاض رواد مدرسة الاعتدال جهادا فكريا واسعا ضد التوظيف التبريري للدين في حل المشكل الاجتماعي، سواء الذي يبرر الاستغلال، أو الذي يقمع غضب الناس ضد المستغلين، أو الذي يبرر المظالم ويعتبرها قدرا محتوما يفرض الصبر والخنوع وليس المقاومة والثورة.

وكان من أهم القضايا التي تناولها رواد المدرسة تصحيح مفهوم الناس حول مسألة الفقر باعتباره رأس الرذائل والبلايا في المجتمعات، حيث ساد خطاب ديني في تلك الفترة يمجد في الفقر ويعتبره فضيلة الفضائل، ويدعو للصبر عليه والاستسلام له، وتبشير الفقراء بأن لهم الدار الآخرة، وكان هذا الخطاب يجد قبولا من السلطة، فتتيح له المنابر لتبليغه وحث الناس على الاعتقاد به، إلا أن اجتهادات المدرسة رفضت هذا التدليس على المجتمع في قضية الفقر باسم الدين.

ورأت المدرسة أن الفقر ليس قدرا حتميا، بل ناتج عن استغلال وسوء تخطيط ومظالم اجتماعية واسعة، وظلم سياسي، وغياب للعدالة الاجتماعية، فـ"الإسلام يعتبر الفقر مصيبة، ويعمل على تخليص الناس من آثارها"(4)ومن ثم "لا يجوز إقحام الدين في الرضا بالقسمة والنصيب"(5)

ويحكي الشيخ يوسف القرضاوي أنه أثناء إعداد رسالة الدكتوراه وقع خلاف في الرأي بينه وبين المشرف على الرسالة، حول: هل الفقر مشكلة أم ابتلاء؟ وكان رأى المشرف أن الفقر ابتلاء، على خلاف رأي القرضاوي الذي كان يراه مشكلة، فـ"الصوفية لا يعتبرون الفقر مشكلة، بل يعتبرون الغنى هو المشكلة وهو الداء والمرض، وقد أُثر عنهم قولهم: إذا رأيت الفقر مقبلًا، فقل: مرحبًا بشعار الصالحين! وإذا رأيت الغنى مقبلًا، فقل: ذنب عجلت عقوبته! وهو عكس ما ذهبت إليه في بحثي، فقد رأيت الإسلام اعتبر الفقر بلاءً، يُستعاذ بالله من شره"(6).

وفي كتابه "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام" الصادر عام 1966، أعلن القرضاوي رفض الإسلام للنظرة التقديسية للفقر، فـ"الأحاديث الواردة في مدح الزهد بالدنيا لا تعني مدح الفقر"(7)، ورأى أن "الفقر خطر على سيادة الأمة وحريتها واستقلالها"(8)، وأن الإسلام يرفض النظرة الجبرية للفقر، ويرى أنها تشكل "حجر عثرة في سبيل أي محاولة لإصلاح الأوضاع الفاسدة، أو تعديل الموازين الجائرة أو إقامة العدل المرجو"(9).

الدعوة إلى العدل الاجتماعي

دعت مدرسة الاعتدال إلى العدل الاجتماعي، باعتباره أساس الإصلاح الاجتماعي، وحاميا للمجتمعات من الفوضى والاضطرابات، فغياب العدل مفتاح للشر المستطير في المجتمع، ورأت المدرسة أن العدل أساس للاستقرار الاجتماعي، ومن أعدل العدل مبدأ تكافؤ الفرص، ويرى الغزالي أنه "يجب أن يدخل الناس ميدانا تتكافأ فيه الفرص وتؤدي الأسباب نتائجها، وتتأكد فيه قواعد العدل الاجتماعي الصحيح"((10)).

وتناولت المدرسة الواجب الاجتماعي للدولة باعتباره قاطرة الإصلاح في أي مجتمع، خاصة دورها في مقاومة البطالة والعطالة في المجتمع، فـ"لا يجوز أن يبقى رجل من غير دخل -قليل أو كثير- يكفل له الواجب لمعيشته.

وعلى المجتمع المتدين أن ينظم أموره تنظيما يؤدي إلى النتيجة المحتومة وإلا كان مجتمعا لا دين له"((11))، ورأى الغزالي أنه "على الدول شق ميادين العمل لكل قادر، واستنفاد الطاقات المخزونة في الأجساد لمصلحة الفرد والمجتمع"((12))، لأن "تجويع الجماهير، بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والظلام.

ومن هنا انتشر الفقر انتشارا ذريعا في الشرق الإسلامي، وسخر الدين ورجاله لحمل الناس على قبوله واستساغته"((13))، ومن ثم فدور الدعاة والمصلحين هو "أن نقيم العدالة بيننا، وأن نفرغ في تحقيقها وسعنا، زأن نبذل قصارانا في مصلحة الجماعة وضمان حقوق الفرد"((14)).

ويأتي كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الصادر عام 1949 كمساهمة فكرية ونظرية في الإصلاح المجتمعي، فرأى "سيد قطب" أن الدين مرتبط بالقضية الاجتماعية ارتباطا وثيقا لا فكاك، فـ"فكرة المجتمع واضحة بارزة في شعائره ونظمه على السواء، وإنها الفكرة الأولى القوية الشائعة في كيانه كله.

فإذا شاهدنا في بعض العصور محاولة لتضخيم الجانب "التعبدي" من هذا الدين وعزله عن الجانب الاجتماعي، أو عزل الجانب الاجتماعي عنه، فتلك آفة العصر لا آفة الدين"((15))، ثم يقول: "ليس لدينا سبب لتنحية الإسلام عن المجتمع"((16)) و"ليست لدينا أسباب حقيقة للعداوة بين الإسلام والكفاح لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالإسلام يفرض قواعد العدالة الاجتماعية، ويضمن حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، ويضع للحكم والمال سياسة عادلة، ولا يحتاج لتخدير المشاعر، ولا دعوة الناس لترك حقوقهم على الأرض، وانتظار ملكوت السماء"((17)).

ويشرح قطب رؤية الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية، والتي جعلها عدالة إنسانية شاملة، مؤكدا أنه حين "حاول الإسلام أن يحقق العدالة الاجتماعية كاملة ارتفع بها أن تكون عدالة اقتصادية محدودة، وأن يكون التكليف وحده هو الذي يكفلها؛ فجعلها عدالة إنسانية شاملة، وأقامها على ركنين قويين: الضمير البشري من داخل النفس والتكليف القانوني في محيط المجتمع"((18))، وهي إسهامات جعلت قضايا المجتمع في صلب الرؤية الإصلاحية لمدرسة الاعتدال.